الجمعة 29-03-2024

بدون مؤاخذة- فضائيات الهبل العربي

جميل السلحوت /القدس

بدون مؤاخذة- فضائيات الهبل العربي جميل السلحوت: لا أعرف عدد الفضائيّات المتخصّصة ببثّ "ثقافة الهبل" -إن جازت التّسمية- باللغة العربيّة، لكنّها بالعشرات إن لم تكن بالمئات، ولم أسمع عن دولة واحدة منعت هذه الفضائيّات من أراضيها، أو حجبتها بتشفيرها كي لا يراها مواطنوها، تماما مثلما لم أسمع أنّ أقمارا فضائيّة عربيّة مثل "أراب سات أو نايل سات"قد رفضت السّماح لواحدة من هذه الفضائيّات بالبثّ عبرها، وغالبيّة هذه الفضائيّات المتخصّصة ببثّ الجهل والهبل تتّخذ من الدّين عباءة لها، دون أن نسمع عن جهة دينيّة مرموقة كالأزهر وهيئة علماء المسلمين، ومن يسمّونهم بـ "العلماء" من اصدار فتاوي ترفع الغطاء الدّينيّ عن هكذا فضائيّات، مع أنّها سبق وأصدرت ولا تزال فتاوي "للمتأسلمين الجدد" بقتل شعوبهم وتدمير أوطانهم، وفتاوي عجيبة غريبة مثل "جهاد النّكاح" و"ارضاع الكبير" و"إعادة الرّق" وتدمير الأثار ودور العبادة لغير المسلمين، والمقامات الاسلاميّة وغيرها. واللافت أنّ فضائيّات "الجهل والهبل" يتصدّر الرّدود فيها رجال في غالبيّتهم يرتدون الجبّة والعمامة، ويطلقون اللحى ويحلقون الشّوارب- زيادة في التّقوى والورع- ويحملون ألقابا كبيرة مثل:"الدّكتور العلامة" –زيادة في خداع بسطاء العامّة-. فيفسّرون الأحلام بطريقة مضحكة ومحزنة حتّى البكاء على حالنا، ويصفون "أدوية" لمختلف الأمراض بما فيها المستعصية كالسّرطان مثلا، وسأعطي عددا من الأمثلة ممّا شاهدته متعمّدا على فضائيّات "الهبل وتكريس الجهل": ذات يوم اتّصلت سيّدة تسأل أحد المشيخ من "مفسّري الأحلام" وقالت:"رأيت أبي المتوفّى في المنام –أستغفر الله العظيم- يعاشرني كما يعاشرني زوجي، فارتعبت من ذلك الحلم، فما تفسير ذلك جزاك الله خيرا؟" فأجابها الشّيخ وبسمة تعلو وجهه:" أبشري يا أختاه، وهنيئا لك، فهذا الحلم دليل على أنّك بارّة بوالدك، وهو راض تماما عنك، لأنّ الوصال في الحلم يعني الرّضا!" واتّصلت إحداهنّ على الدّكتور العالم العلامة تسأله عن علاج لسقوط الشّبكيّة في عينيها، فأجابها بأنّ العلاج سهل، لكنّ الأطباء لا يعرفونه لبعدهم عن الدّين، ووصف لها العلاج بأن تحضر اثني عشر لتر ماء في وعاء، وأن تقرأ عليها ثلاث سور من القرآن ذكرها، وأن تشرب كأسا من الماء المقروء عليه ثلاث مرّات في اليوم، وبإذن الله ستشفى! والحديث يطول في هكذا أمور، وبإمكان أيّ إنسان أن يشاهد "هذا الهبل" على مدار 24 ساعة يوميّا. فما تفسير ذلك؟ من المعلوم أن الجهل يقود إلى سلسلة من الحلقات المفرغة تشكل كلّ واحدة منها كارثة، مثل التّخلف العلميّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ والصّحّيّ وغيرها، ومن البدهيّات أنّ الشّعوب الفقيرة في غالبيتها ليست فقيرة في مواردها، وإنّما هي فقيرة أو معدمة بعلمها وفي استغلال هذه الموارد، ولكم أن تتصوّروا أنّ مناطق واسعة وخصبة يعاني سكّانها من الجوع؛ لأنّ القبائل التي تسكنها تعتبر الزّراعة عيبا! وهذه موجود منها في السّودان وجيبوتي على سبيل المثال، وهذا الجهل هو مسؤوليّة الحكومات التي يجب أن تعلّم شعوبها، وتثقّفهم لتمحو من رؤوسهم هذا المعتقد، وكمثال معاكس فإنّ دولة مثل بلجيكا عدد سكّانها ستّة ملايين نسمة، ومداخيلها عالية جدا، لأنّها تستغل ثرواتها المتمثّلة بصيد السّمك وتعليبه وصناعة الأخشاب. والجهل يقود إلى جهل في فهم ما يحيط بالانسان من ظواهر يصعب عليه تفسيرها، فتتولّد لديه قناعات بوجود ظواهر خارقة تسيطر عليه، ويتماشى معها كحالة مرضيّة يصعب عليه الخروج منها. أو بالأحرى لا يجد من يخرجه منها، بل يجد من يستغلّها ويطوّرها لديه؛ ليستغلّه ماليّا وربّما جنسيّا، ويتمثل ذلك في "العرّافين" و"الفتّاحين" ومدّعي العلم بالغيب، والذين يزعمون بأنّ لهم علاقات مع الجنّ والشياطين وغير ذلك، ويتمترس هؤلاء المحتالون وضحاياهم حول فهم خاطئ للدّين، فحسب الدّين الجنّ موجود، "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" وقال العالمون بأمور الدّين: "أنّ الجنّ لهم عالمهم الخاص، وهم كائنات ضعيفة لا علاقة لها بعالم الانسان"، لكنّ الجهلاء لا يفهمون ذلك، ويعتقدون أنّهم واقعون تحت سيطرة "الكفرة" من الجنّ! ويجدون من يحتال عليهم؛ ليسلبهم فلوسهم القليلة، وقد يتلذّذون بضربهم وربّما حتّى الموت بحجّة اخراج الجنّ منهم، أو باستغلالهم ماليّا وجنسيّا لنفس السّبب، وهذه مسلكيّات موجودة في بلداننا العربيّة -مع الأسف-، بل الأدهى والأمرّ أنّ هناك فضائيّات تبثّ 24 ساعة، وفيها أشخاص يعطونها صبغة دينيّة ليخدعوا المتّصلين بهم عبر مكالمات دوليّة باهظة التّكلفة، يتقاسمونها مع شركات الاتّصالات، ومن المحزن هو وجود قطاعات واسعة تؤمن بصحّة ذلك، وذات برنامج تلفزيونيّ جرت مناظرة في إحدى الجامعات العربيّة بين ممثّل خليجيّ شديد الذّكاء تقمّص شخصيّة مشعوذ يعالج الأمراض، مع طبيب متخصّص لم يكن يعلم الدّور الذي يقوم به الممثّل، وتمّ بثّ المقابلة، واقتنع جمهور المشاهدين وهم طلبة وأساتذة جامعيون بحجّة وقدرات المشعوذ أكثر مما اقتنعوا بقدرات الطبيب المتخصّص، وفي آخر الحوار كشف الممثّل عن شخصيّته، فضحك بعض الحضور واستاء البعض الآخر، لكن غالبيّتهم لم يغيّروا قناعاتهم. ومن اللافت أيضا أنّ هناك من يدّعي العلاج بالقرآن الكريم، معتمدين على قوله تعالى:" وننزّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا" وهذا الشّفاء كما أورده بعض المفسرين مثل الدّكتور محمود عكّام: "وهذا الأثر للقرآن - الشّفاء - أثر ذاتي، يتعلق بالإنسان ذاته، إذ يصحّحه من الأمراض التي ألمت بعقله كالشّكّ والرّيبة، وتلك التي ألمّت بقلبه كالحزن والقلق والاضطراب. فالقرآن يشفيني إذ يهيء منّي إنسانا سليما وصالحا في ذاته" ويفهم من هذا أنّ القرآن دعوة للتّوحيد والشّفاء من الشّرك والحيرة في خلق السّماوات والأرض. ويؤكّد ذلك ما ورد في الحديث الشّريف: " ما خلق الله من داء إلا وخلق له الدّواء تداووا عباد الله". وممّا ورد في الأثر من أنّ الخليفة الثّاني عمر بن الخطاب مرّ بأعرابيّ يقرأ القرآن على ناقته الجرباء، فقال له عمر: لو أضفت لقراءتك قليلا من القطران لشفيت ناقتك." وهذا دعوة من الخليفة تفيد بأنّ علاج الأمراض يكون بالدّواء وليس بقراءة القرآن. ومن ضحايا المحتالين والمشعوذين هم من يصابون بأمراض نفسيّة وعقليّة، وهي أمراض عضويّة ناتجة عن خلل في الجهاز العصبيّ، واستطاع الطّبّ الحديث المبني على العلم الصّحيح أن يجد لها العلاج المناسب، وتعيس ذلك المريض منهم الذي يصطحبه الأقرباءالتّعساء إلى المشعوذين؛ ليزيدوه مرضا على مرض، إن لم يقتلوه ضربا بحجّة اخراج الجنّ الكافر الذي يتلبّسه. وثقافة الجهل والتّخلف هي سلوك ومعتقد عند الجهلاء، وقد شاهدنا في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة في شهر نيسان 2014 حادثة تقشعّر لها الأبدان، تمثّلت بخنق شاب عشرينيّ لابن شقيقه ابن الثلاثة أشهر، وليعترف للمحقّقين بأنّه قام بخنق جدّته الثّمانينية، قبل ثلاثة شهور، وأنه قام بحرق منزل الأسرة ونشر إشاعة أنّ الأرواح الشّريرة هي من قامت بذلك، وأنّها ستنتقل من بيت إلى بيت؛ لتصل إلى القرى المجاورة، وتصل المأساة ذروتها عندما أتى والد الطفل الضّحيّة؛ ليخبر المحقّقين أنّ شقيقه بريء، وأنّ من قام بهذه الأفعال هي الأرواح الشّريرة التي تسكن جسد شقيقه! وهذا يعني أنّ المصابين بأمراض نفسيّة هم أكثر من شخص واحد، وإن لم يكونوا مرضى فهذا يعني أنّنا غارقون في بحر من الجهل، وهذا من أكثر الأمراض فتكا. ورحم الله المتنبي وهو القائل: لكلّ داء دواء يُستطبّ به .. إلا الحماقة أعيت من يداويها.

انشر المقال على: