الاثنين 06-05-2024

اليسارُ الفلسطينيُّ؛ تراجعُ الفكرةِ أم تراجعُ القوى...؟

×

رسالة الخطأ

محمد حسين

اليسارُ الفلسطينيُّ؛ تراجعُ الفكرةِ أم تراجعُ القوى...؟

محمد حسين

السبت 18 يونيو 2022 | 09:13 ص

بوابة الهدف

إنّ وجودَ فكرةِ اليسارِ في الواقعِ الفلسطينيّ ليست ترفًا فكريًّا، بل هي تعبيرٌ حقيقيٌّ عن شريحةٍ ما من الشارعِ الفلسطينيّ، تؤمنُ بالفكرِ الديمقراطيّ التّقدميّ العلميّ القادرِ على التصدي للمشكلاتِ السياسيّة، والاقتصاديّة، والاجتماعيّة، والثقافيّة، ولكي يكونَ اليسارُ قادرًا على التصدّي لهذه المشكلاتِ ومعبّرًا عن هذهِ الشريحةِ؛ لا بدَّ أن يكون متعافيًا وخاليًا نسبيًّا من الأزماتِ التي تعصفُ به، ولديهِ حواملُ فاعلةٌ ومبدعةٌ وكفؤة، وهذا لن يتأتّى إلا عن طريقِ حياةٍ تنظيميّةٍ قويّةٍ تهيّئ الظروفَ للحواملِ التنظيميّةِ التي يمكنها التصدّي للمشكلاتِ كافةً. إنّ حالةَ الاستقطابِ الحادةِ بين حركتي فتح وحماس منذ ما يقاربُ ستةَ عشرَ عامًا كانت تشكّلُ فرصةً ذهبيّةً لليسارِ لتشكيلِ تيارٍ ثالثٍ قويٍّ يخفّفُ أو ينهي حالةَ الاستقطابِ هذهِ لكن للأسف لم يستطعْ اليسارُ أن يقدّمَ شيئًا في هذا المسارِ، وهنا يتبادرُ إلى الذهنِ سؤال: كيف ليسارٍ يعاني من أزماتٍ متعدّدةٍ أن يشكّلَ قوّةً ثالثة؟ إنّ المدخلَ الصحيحَ لتشكيلِ الطريقِ الثالثِ هو أن يبدأ بالمراجعةِ النقديّةِ الجريئةِ لذاته، التي ترتكزُ على ثلاثةِ محاورٍ رئيسيّةٍ (المحورُ التنظيميّ، المحورُ الفكريّ، المحورُ السياسيّ والكفاحيْ). أوّلًا: المحورُ السياسيّ: نجدُ أنّ قوى اليسار تلتقي في قواسمَ سياسيّةٍ كبرى لكنّها تختلفُ في التكتيكِ السياسيّ، الذي قد يلحقُ الضررَ فيها، لذلك نجد أنّ بعض قوى اليسار تتماهى أحيانًا مع القيادةِ المتنفّذةِ في منظّمةِ التحريرِ بتكتيكها السياسيّ والبعض الآخر يتماهى مع القوى الإسلاميّةِ والوطنيّةِ في تكتيكِهِ السياسيّ، لذلك نجد أنّ اليسارَ فقدَ بريقَهُ السياسيَّ الذي يعبّرُ عنه نتيجة هذا التماهي غيرِ المبرّرِ. واليوم وبعد حذفِ الجبهةِ الشعبيّةِ البرنامج المرحليّ من برنامجها أصبحت الهُوّةُ السياسيّةُ تتّسعُ بين قوى اليسارِ أكثرَ فأكثر. لقد عبّرتِ الجبهةُ الشعبيّةُ في وثائقها عن هذا التخلّي لأسبابٍ عدّة، منها: 1. استغلالُ بعضِ القياداتِ المتنفّذةِ في القرارِ الفلسطينيّ لهذا البرنامجِ والذهابِ إلى تسويةٍ أقلَّ من الحدِّ الأدنى للبرنامجِ المرحليّ، وإنهاء البرنامجِ الاستراتيجيّ وتسريبِ فكرِ المفاوضاتِ ونهجها لدى قطاعاتٍ من أبناء الشعبِ الفلسطينيّ، ممّا فتحَ المجالَ أمامَ بلبلةٍ وانقسامٍ بين مؤيّدٍ ورافضٍ لهذا البرنامجِ. 2. تدميرُ إسرائيلَ لفكرةِ الدولةِ الفلسطينيّةِ المستقلّةِ وعاصمتها القدس عبرَ سياسةِ مصادرةِ الأراضي وخلقِ وقائعَ على الأرضِ تجعلُ من إمكانيّةِ تحقيقِ دولةٍ فلسطينيّةٍ مستقلّةٍ على حدود عام ١٩٦٧ مستحيلًا. ‏إنّ هذا التبريرَ له مصوّغاتُهُ وأنصارُهُ في غالبيّةِ صفوفِ قياداتِ الجبهةِ الشعبيّةِ وكوادرها التي أصبحت تأخذ لونًا واحدًا تقريبًا في ظلِّ غيابِ الحراكِ الفكريّ والسياسيّ في صفوفِها ومغادرةِ معظمِ كوادرها النوعيّةِ وفقدانها لمعظمِ قياداتها التاريخيّةِ كما باقي قوى اليسار. ‏لكن هناك من يرى أنّ البرنامجَ المرحليَّ يحملُ في أحشائِهِ شيئًا مهمًّا من فكرةِ الهدفِ الاستراتيجيّ؛ لأنّهُ يقومُ على ثلاثِ ركائز: ‏أ. حقُ العودةِ وَفْقَ القرار ١٩٤ الذي يقرّ بعودةِ اللاجئين الفلسطينيّين إلى ديارهم. ‏ب. حقُ تقريرِ المصيرِ الذي بموجبِهِ يقرّرُ الشعبُ الفلسطينيُّ مصيرَهُ بيديهِ. ‏ج. الدولةُ الفلسطينيّةُ المستقلّةُ وعاصمتُها القدسُ. ‏يذهبُ البعضُ الذي يتمسّكُ بالبرنامجِ للقول: إنّ البرنامجَ المرحليَّ يعطي إمكانيّةً للتحرّكِ على المستوى الدوليّ، ويجنّبُ القضيّةَ الفلسطينيّةَ وحركتها الوطنيّةِ مزيدًا من الضغوط، لأنّه يستندُ إلى قراراتِ الشرعيّةِ الدوليّة، وإنّ حقَ العودةِ الذي يتضمّنهُ البرنامجُ الذي يحتاجُ إلى موازين قوى كبيرة إذا ما تحقّقَ سيجعلُ من إسرائيلَ ومشروعها في مهبِّ الريحِ. ‏(إنّ الهدفَ الاستراتيجيّ للكفاحِ الذي تخوضُهُ الجبهةُ الشعبيّةُ هو استرجاعُ فلسطين من الاحتلالِ الصهيونيّ الاستعماريّ الكولونياليّ وتحريرها، وإقامةُ دولةٍ ديمقراطيّةٍ على كاملِ الترابِ الوطنيّ الفلسطينيّ وعاصمتها القدس، تكفلُ الحقوقَ المشروعةَ لجميعِ مواطنيها على أساسِ المساواةِ وتكافؤِ الفرصِ دون تمييزٍ بسبب الدين، أو الجنسِ، أو العقيدةِ، أو اللونِ، وتكون معاديةً للصهيونيّةِ الإمبرياليّة، وذاتَ أفقٍ وحدويٍّ ديمقراطيٍّ مع سائرِ الأقطارِ العربيّةِ. المؤتمرُ الثامنُ للجبهةِ الشعبيّةِ 2022). ثانيًا: ‏المحورُ التنظيميّ: ‏إنّ الأزمةَ التنظيميةَ التي تعصفُ بقوى اليسار يمكن تلخيصُها بالآتي: ‏1. ‏المبادئُ التنظيميّةُ لقوى اليسار التي تشكّلُ مثارَ جدلٍ واسعٍ بين صفوفها وخارجها حولَ صحتِها وعدمِ صحتِها: هل تلائمُ الواقعَ أم لا؟ من هذه المبادئ: مبدأُ المركزيّةِ الديمقراطيّةِ وما ينطوي تحت هذا البند من (انتخابِ الهيئاتِ، حريّةِ النقاشِ، الالتزامِ بقراراتِ الأغلبيّةِ). إنّ هذا المبدأ وغيره بحاجةٍ إلى إعادة النظر به، هل يصلح أم لا على ضوء تشتّت هذه القوى ووجودها في أكثرَ من ساحةٍ كما هو حال الشعب؟ كيف لهذه القوى أن تعترفَ بخصوصيّات التجمّعات الفلسطينيّة ولا تعترف بخصوصيّة أفرعها التنظيميّة في هذه التجمّعات، ومصرّة على إبقاء هذا المبدأ الذي يمركز العمل في كلِّ شيء؟ فالحقيقةُ والواقعُ يقولانِ إنّها تخشى من السيطرة، ومن ثَمَّ تهتزُّ مكانتُها القياديّةُ شيئًا فشيئًا. إنَّ شدةَ الأزمةِ التنظيميّةِ لا تحتاجُ عناءً كبيرًا لاكتشافها؛ فالواقعُ يؤكّدها، إنّ تراجعَ العضويّةِ لكلّ قوى اليسار، المترافقةِ مع تراجعِ مجملِ أنشطتها السياسيّةِ والجماهيريّةِ بمختلِفِ أشكالها، وإنهاك الهيئاتِ القياديّةِ والكادريّةِ في العمل الداخليّ على حسابِ الفعلِ الميدانيّ على الرغم من حديثِ هذه القوى على إجراءِ تحديثٍ وتطويرٍ في أدواتِ عملِها وإيجادِ توازنٍ بين العملِ الخارجيّ والداخليّ، إلا أنّها حافظت على مجملِ أشكالِ أساليبِ عملها الداخليّ والخارجيّ غيرَ متأثّرةٍ بالتطوّراتِ الحاصلةِ في الواقعِ، وهنا يمكن أن نسجّلَ على هذه القوى: تراجعَ عضويّتها، وفقدانها العضويّةِ النوعيّة، عدم تجديدِ طرقِ وأساليبِ عملها، ضعف المبادرة، غياب قوّة المُثُلِ وقوّة الجذبِ، غياب القدرة على استقطابِ عناصرَ نوعيّةٍ ترفدُها بدماءٍ جديدةٍ، بهتان عملية النقدِ والنقدِ الذاتيّ، بهتان القيمِ والمبادئِ الثوريّة، اتّساع الهُوّة بين القولِ والفعل، ضعف الإبداع في الممارسة العمليّة، غياب المشاركة الفاعلة للكادر في مختلِفِ مفاصل عمل هذه القوى، وإبقائه ضمنَ دائرةِ تنفيذِ تعليماتِ القيادة؛ لكي لا يشكّل بديلًا لها، وتضمن وجودها لأكبرَ مدّةٍ ممكنةٍ تحت شعارِ غيابِ البديل. إنّ هذه الأمراض جاءت نتاجَ عمليّةٍ تراكميّةٍ طويلةٍ تحوّلت القوى اليساريّة خلالها من مشاريع قوى طليعيّة كفاحيّة إلى أجهزةٍ بيروقراطيّة، أصبحت المسؤوليّةُ فيها ذات مراتبيّةٍ هرميّةٍ أوامريّة؛ الأمرُ الذي أدّى إلى سيادةِ نظامٍ من العلاقاتِ الحزبيّةِ الداخليّةِ الخاطئةِ والمتخلّفةِ، أسهم في تقييدِ تطوّرِ الفكرِ والإبداعِ والممارسةِ التنظيميّةِ الصحيحة، ومن ثَمَّ أدّى هذا الوضع إلى تركِ أعدادٍ كبيرةٍ من الكوادرِ لصفوفها وما زال مستمرًّا. ‏٢. القيادةُ، الكادرُ، المكانةُ والدورُ. ‏لن نتأمّلَ كثيرًا في المشهد لنكتشفَ وبسرعةٍ أنّ قيادات وكوادر اليسار تعاني من أمراضِ الشيخوخةِ التي تجعلُها غيرَ قادرةٍ على وضع شعاراتها وسياساتها موضعَ التنفيذِ وهذهِ الشيخوخةُ بالاتجاهين. ‏الأولى الشيخوخةُ الفكريّةُ والتنظيميّة، فلا يعقلُ أن يبقى يدارُ تنظيمٌ في واقعٍ حديثٍ يحمل صفات العلمِ والتكنولوجيا وتغيّراتٍ مهمّة حصلت على مستوى المجتمعاتِ والأفرادِ، بالأساليبِ والطرقِ التنظيميّةِ نفسها التي تنتمي إلى مراحلِ التأسيسِ الأولى لتلك القوى. ‏الشيخوخةُ الثانيةُ وهي الأهم المتعلّقةُ بالهيئاتِ القياديّةِ والكادريّةِ والناتجةِ بالأساس عن ضعفِ عمليّة البناء والتجديد في العضويّةِ النوعيّة، مما يسمحُ بإضافةِ دماءٍ جديدةٍ قادرةٍ على المساهمة في تجديدِ مؤسّساتِ ومنظّمات الحزبِ المختلفةِ، وتغيّرِ أشكالِ وأساليبِ عمله وجعله أكثرَ حيويّة في التعاملِ مع الواقع. إنّ هذا الدمَ النوعيَّ الجديد يفتحُ المجالَ في تجديدِ الهيئاتِ القياديّةِ والكادريّةِ التي أصبح أعضاؤها يحتلّون مناصبهم منذ عشراتِ السنين. ‏لقد حافظت قوى اليسارِ على أغلب عضويّتها في الهيئاتِ القياديّة، وحتى الكادر المضاف لتلك الهيئات، فالغالبيّةُ العظمى تجاوز الستين عامًا. إنّ أزمةَ مرور الأجيالِ التي تعاني منها قوى اليسار إذا ما استمرّت، فإنّها ستؤدي إلى المزيدِ من انكماشِ هذه القوى واضمحلالها، وسوف نشهدُ بروزَ قوى وتجمّعاتٍ يساريّة تأخذُ مكانها كما حصل في المشهدِ الفلسطينيّ منذ أقلّ من عقدين عندما احتلت حركةُ حماس مكانَ الريادةِ بعدما تراجعت حركةُ فتح، فالواقعُ لا يحتملُ الفراغ، والمراهنةُ على الوقت وحدَها لا تكفي. إنّ الفصائلَ اليساريةَ تدور منذ عشرات السنين في الحلقةِ المفرغةِ ذاتها، وتعيد إنتاجَ الأزمةِ ذاتها ففي ظلّ ضعفِ عمليّةِ الاستقطاب، افتقدت هذه القوى للدماء النوعيّةِ الجديدةِ القادرةِ على التجديدِ النوعيّ، وبات الاستقطابُ لديها مثلها مثل باقي القوى، فالمئاتُ يدخلون والمئات يخرجون منها لأنّها لا تستطيعُ الاحتفاظَ بهم؛ بسبب أدواتها التنظيميّةِ الضعيفةِ والهشّةِ. ثالثا: ‏المحورُ الفكريّ: ‏ بعدَ العواصف التي ضربت الفكرَ الماركسيَّ ال لينين يَّ وجعلته في موضع الشكّ لدى شرائحَ كبيرةٍ من الشعب الفلسطينيّ والعربيّ، أصبح الكثير من قوى اليسار يعيشُ حالةً من الضبابيّةِ في هُويّتِهِ الفكريّة، يعتقدُ البعض أنّ كلَّ قوى اليسار لم تعد تحملُ من صفتِها اليساريّةِ إلا الاسمَ وباتت عبارةً عن تنظيمٍ وطنيّ، يجمع الكلّ تحت فكرةِ تحريرِ فلسطين. إنّ ضابيّةَ هذهِ الهُويّة يعود إلى: ‏أ. غيابُ القياداتِ الفكريّةِ الوازنة، إمّا بسببِ الموت أو بسبب مغادرتها لهذه القوى. ‏ب. غياب الكوادر المثقّفة والحالات النوعيّة التي من الممكن أن تخلقَ حالةَ جدلٍ فكريٍّ ثقافيٍّ في صفوفها. ‏ج. غياب البيئة الحاضنة داخل صفوفها لأيّ أفكارٍ نظريّةٍ بسببِ ضعفِ بنيتها. ‏د. الشكُّ الذي اعترى أوساطًا واسعةً بصحّة هذا الفكر بعد انهيارِ النظريّةِ في عقرِ دارها... ‏ن. تراجع كلّ الأفكارِ اليساريّةِ والقوميّةِ والوطنيّةِ بعد الإخفاقاتِ المتلاحقةِ وبروز التيارِ الإسلاميّ، ممّا يصعب على أصحاب هذا الفكرِ العملُ بحريّةٍ في أوساطٍ كبيرةٍ من الشعبِ الفلسطينيّ.. ‏رغمَ ذلك ما زالت قوى اليسار تقدّم نفسها بهذا التعريف (حزبٌ سياسيٌّ يساريٌّ يسترشدُ أو يتبنى المنهجَ الماديَّ الجدليَّ الماركسيّ)، ‏فهل يكفي التعريفُ حتى يصبحَ مضمونُ هذه القوى يساريًّا؟ ‏أعتقدُ أنّ الأزمةَ التي تعصفُ في مفاصل اليسار بحاجةٍ إلى عمليّةِ نقدٍ جريئةٍ وتصالحٍ مع الذاتِ ومحاولةِ وضعِ أسسٍ جديدةٍ للانطلاق، وليكن شعارُها كما قال الشهيدُ مهدي عامل (التماثلُ موتٌ والاختلافُ حياةٌ).

انشر المقال على: