الثلاثاء 30-04-2024

المشروعُ السياسيُّ الفلسطينيُّ بدأ أم انتهى مأزومًا؟ د. وسام الفقعاوي

×

رسالة الخطأ

د. وسام الفقعاوي

المشروعُ السياسيُّ الفلسطينيُّ بدأ أم انتهى مأزومًا؟ د. وسام الفقعاوي الثلاثاء 22 فبراير 2022 | 07:35 ص نشر هذا المقال في العدد 34 من مجلة الهدف الإلكترونية صحيحٌ أنّ ما جرى سنةَ 1993؛ أي توقيع اتّفاق أوسلو، واعتراف قيادة منظّمة التحرير الفلسطينيّة بحقِّ إسرائيلَ في الوجود، وما ترتّب على ذلك من نتائجَ سياسيّةٍ وعمليّة، لم يكن إلا محطّةً في الحرب التاريخية والمفتوحة المُشنة على الحقوق كما الوجود الفلسطيني، وبمعنى أوسع، على الوطن العربيّ وفيه، عمرُها يزيد عن قرنٍ من الزمان، لكنّها كانت محطّةً نوعيّةً في معادلة الصراع، ليس بمعنى أنّ ما عداها لم يكن نوعيًّا، بل بمعنى نوع الاستحقاقات التي امتدّت للمسّ بالأساس الفكريّ والسياسيّ والثقافيّ والنفسيّ للصراع. لقد أعادت محطّة أوسلو، وبمعنى أدقّ الهزيمة السياسيّة الكبيرة التي لحقت بالفلسطينيّين؛ إنتاجَ كلِّ شيءٍ على مستوى الصراع وأسسه ومفاهيمه الأساسيّة، ليس على المستوى الفلسطيني فحسب، بل على المستوى العربيّ أيضًا، الذي تهيّأ أكثر لنفض يده من القضيّة الفلسطينيّة، خاصّةً أنّ الفلسطينيّين بمختلِفِ مكوّناتهم السياسيّة، قد ابتعدوا أكثرَ فأكثرَ عن أهدافِ قضيّتهم التاريخيّة. في المقابل، فلقد ثبت أنّ العدوّ الصهيونيّ، كان يخوض حربًا شاملةً ومركبة؛ إذ قامت استراتيجيّته على شنّ حروبٍ متعددة المرامي والأهداف والأشكال على جبهاتٍ مختلفة، والاستثمار بها سياسيًّا على الصعيد العربيّ والفلسطينيّ منه، وبما يحقّق أهدافه في التمدّد والسيطرة، واستمرار التفوّق والهيمنة، بما يعني استكمال أهداف المشروع الصهيونيّ، الذي لم يرَ ويتعامل مع كلّ المحطّات التي سبقت عام 1993، إلا بوصفها محطّاتٍ غيرَ مكتملةٍ وغيرَ نهائية، وما عام 93 - توقيع اتفاق أوسلو - سوى محطّة فاصلة في سياسةٍ دائمة. مما تقدّم يتّضح، أنّ الحرب المذكورة لم تكن إلا استكمال لحربٍ سياسيّةٍ فعليّةٍ طويلة - من على قاعدة الاتّفاقات الموقّعة مع الفلسطينيّين - كانت أهدافُها اللاحقة، إن وفقًا لمنطق الأمور، أو كما دلّت التجربة الحسيّة المُعاشة – الانكباب على التطبيع – ضربَ العمق العربي، وتهيئة المقدمات المطلوبة لتصفية القضيّة الفلسطينيّة، وهذا ما يجب أن يكون واضحًا وبدقّة، إذا أردنا عدم تضييع الخطّ الرئيسي للصراع، ورؤية الاستراتيجية الشاملة من مباشرةٍ وغير مباشرة، التي لجأ إليها العدوّ الصهيونيّ وحلفاؤه، الذين تناغموا معه في الأداء والأدوار للوصول للنتائج المحقّقة اليوم والمبتغاة غدًا، وهذا بدوره ما يطرحُ بإلحاحٍ عنوانَ هذا المقال، وهل فعلًا بدأ المشروعُ السياسيُّ الفلسطينيُّ مأزومًا أم انتهى كذلك؟ غيابُ سؤالِ من نواجه؟ أو من هو العدوّ؟ بوعيٍ أو دونه؛ جرى اختزال المشروع الصهيونيّ في وليدته "إسرائيل"، وبدا عند القوّة المهيمنة في الساحة السياسيّة الفلسطينيّة، أنّه بإمكاننا أن نُجريَ "مناورةً" عسكريّةً وسياسيّةً معها إلى أن نصل إلى حلًّ سياسيٍّ مُرْضٍ؛ من خلال تأكيد دور الفلسطينيّين في الصراع، حيث برز أكثر النزوع لإظهار "الكيانيّة" الفلسطينيّة المستقلّة، وُرفع شعارُ القرار الوطني المستقلّ وصولًا لمقولة "يا وحدنا". وعليه توسّلت هذه القوّة المهيمنة في ذلك المبادرات السياسيّة التي كانت في صميمها توجد حلًّا لإسرائيل/العدو في استمرار حربها الهجوميّة لا العكس، والتي كانت تشارك بها أطراف الحلف المعادي كافة: الاستعمار والإمبرياليّة والصهيونيّة إلى جانب إسرائيل. الأدهى أنّ أدبيات بعض الفصائل وفي مقدمتهم الجبهة الشعبيّة، حدّدت هذا الحلف/المعسكر، لكن "الممارسة" القائمة؛ أبرزت أنّنا لم نكن بمستوى جديّة القضيّة، وحلَّ جدلٌ هابطٌ ومتدني المستوى، حيث لم يتركّز النقاشُ حيث يجب، وتحديدًا حيث يتركّز الصراع التاريخيّ وأطرافه الأساسية الذي لم يكن الخطُّ الرئيسيُّ فيه بين دور العرب أم دور الفلسطينيّين؛ استراتيجيّة الحرب الكلاسيكيّة أم الحرب الشعبيّة؛ الحلول السياسيّة المرحليّة أم النهائيّة؛ حلّ الدولة الديمقراطية أم الدولتين.. كما ذهب النقاش أو أُريد له أن يذهب، بل بين حلف/معسكر/شركاء في مشروعٍ واحد، وبين كلّ من حاول أو يحاول منع تحقيق أو ترسيخ أو استكمال مصالح أولئك الشركاء وأهدافهم. وعليه، كانت لهؤلاء؛ الحلف/المعسكر/ الشركاء، على الدوام استراتيجيّةٌ هجوميّةٌ شاملة؛ توسّلت ما تستطيعه من سياساتٍ (حربًا وسلامًا) لتحقيق ما تريد، ونحن كنا على الدوام نُخضع أهدافنا وسياساتنا للتجزئة والتفتيت. النزوعُ للانفصالِ وغموض المفاهيم ليس أسوأ وأكثر كارثيّةً من تشقّق قاعدة الإجماع السياسيّ، التي حصلت عام 1974 – برنامج النقاط العشر - إلا وضع المفاهيم التي لا تحتمل أي التباساتٍ في مواضع التمويه والغموض، وهذه حقيقةٌ لا يعوزها الدليل التاريخي، الذي يزدادُ وضوحًا لدرجة لا يمكن لأحدٍ أن ينكرها إلا إذا كان وقحًا وفاجرًا وطنيًّا، أو لبس رداء المصالح والامتيازات الشخصيّة والفئويّة على أقلّ تقدير، حيث يبرز دون أدنى شكّ، أنّ التاريخ السياسيّ الفلسطينيّ حفل بالمفارقات، خاصّةً لجهة الانفصال بين الشعار والممارسة. ففي الوقت الذي كنا نُعلي الحديث فيه عن التحرير كان المسعى الحقيقي يتّجه نحو التسوية مع العدوّ – حتى بتجاوزٍ لما سُميَّ "قاسمًا مشتركًا" لمن يسعون إليها - وقابل ذلك الاقتراب والتماهي مع الموقف السياسي العربي بعد أن بدأ سقفه السياسيّ بالهبوط أكثر فأكثر، حيث جُسّد نزوعٌ فلسطينيٌّ للانفصال عن العرب، أي الشعوب، في مقابل الالتحاق بموقفهم السياسي للتسوية، أي الأنظمة، وبالتماهي مع ذلك رُفع شعار: عدم التدخل في الشؤون العربية.. فأيّ تناقضٍ هذا؟ إنّه التناقضُ ذاته الذي وضع المفاهيم الأساسيّة موضعَ تمويهٍ وغموض، إلى حيث أوصلنا – وبحدودٍ ملموسة – إلى ضرب العديد من المشتركات السياسيّة، وأدّى إلى تشويهٍ متعمّدٍ لم تمسَّ فقط مفاهيمَ، مثل: القوميّة التي باتت انغلاقًا قطر يًا، والتحرير الذي بات تسوية، والوطن الذي بات دولة دون أرض، والشعب الذي بات شعوبًا، والوحدة التي باتت انقسامًا.. بل وصلت إلى تمويهِ مفهومِ العدوّ ذاته وغموضه، الذي بات في ليلةٍ وضحاها طرفًا آخر من معادلةٍ سياسيّةٍ؛ وهو الطرفُ الرئيسي الجاذب فيها والمستفيد منها، خاصةً بعد أن توالت اتفاقات التطبيع معه والاعترافات العربيّة به، إذْ تسبّبت السياسةُ التي انتهجها الطرفُ الفلسطينيّ المهيمن ونزوعه للانفصال عن العرب وتوحّده مع أنظمتهم، ليس لضرب المفاهيم الأساسيّة، ومن ثَمَّ إضعاف إدارة الصراع الجماعيّة المطلوبة، بل تحقيق أحد أهداف العدوّ في منع العرب مما يوحّدهم، حتى ولو كان الذهاب لعقد تسويةٍ مع إسرائيل! تفكيكُ القضيّة بتزييف الوعي الاجتماعي إنّ الحقيقة التي يجب أن تبقى ماثلةً في ذهن الفلسطينيّين أكثرَ من غيرهم هي أنّ تمويهَ المفاهيمِ وغموضَها، وعزلَ القضايا وفكفكتها؛ كانت دائمًا إحدى بديهيات "الفكر السياسيّ" الذي وظّف ذلك في السير نحو التسوية مع العدوّ، وكان مدخل الوصول لذلك دائمًا يبدأ من تزييف الوعي، والمقصود تزييف الوعي الاجتماعي الشامل، الذي وصل درجة التدمير الذاتي الممنهج؛ المتأتّي من علاقات الخديعة بين القيادة وقاعدتها (شعبها)، ومن البديهيات هنا، فإنّ قيادةً تخدع قاعدتها/شعبها هي قيادةٌ ضعيفةٌ من داخلها؛ أمام نفسها، وأمام العدوّ وأمام شعبها. في حالٍ كهذا، فإنّ السلوك الطبيعي هو اتّباعُ سياسةِ إضعافِ المجتمع وإنهاكه؛ كي لا يصبح على مقاس الموقف السياسيّ لقيادته فحسب، بل وحتى مستوى التكوين النفسي الهشّ والضعيف لها، ومن ثَمَّ الارتكاز على بِنيةٍ اجتماعيّةٍ هشّة، ستضاعف من الكلفة السياسيّة، وتحفيز كلّ المكنونات السلبيّة في داخله، بما يعني المساس الجوهري بالقيم السياسيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة التي تحفظ عادةً التماسكَ الداخليّ للمجتمعات وأفرادها، إلى حيث نصل في نهاية الأمر إلى تهشيم البناء الداخلي للذات الفرديّة الوطنيّة، فنخسر عندها المواطن بعد الوطن.. وهذا ما حصل ونجده مستمرًا، في حالة الاغتراب الفردية والجماعية والابتعاد عن القضايا الوطنيّة الرئيسيّة والنزوع للهجرة – مع عدم إغفال بعض المحطّات النضاليّة التي لم تستثمر سياسيًّا واجتماعيًّا – يترافق كل ذلك، مع ثقل الواقع الاقتصادي والمعيشي ووطأته على قطاعٍ كبيرٍ من الشعب الفلسطيني، داخل الوطن وخارجه، مقابل ترفِ العيش ورغده لدى قطاعٍ واسعٍ من قيادته! في البَدْءِ كانت الأزمة! لم تكن الحصيلةُ السياسيّةُ الكارثيّةُ التي وصلت إليها الحالةُ السياسيّةُ الفلسطينيّةُ ومعها القضيّةُ الوطنيّةُ؛ نتاجَ تناقض المسار السياسي بين مكوّناتها، انطلاقًا من طموح لدى بعض أطرافها لتحقيق أهدافٍ سياسيّةٍ ولو بشكلٍ سريعٍ أو متسرّع؛ فهذه الحصيلةُ أظهرت عمقَ الأزمة البنيويّة التاريخيّة المركّبة التي ترافقت مع المشروع السياسي الفلسطيني منذ بدايته، حيث تضافرت معها آلياتٌ داخليّةٌ وخارجيّة، جعلت هذه الأزمة تستمرُّ وتتعمّق وتفعل فعلَها في كامل البِنية السياسيّة والمجتمعيّة الفلسطينيّة، إذ لم تنجح كلُّ محاولات الخروج منها، رغم علو أصواتٍ من الداخل بوجودها؛ فالمسألةُ تفوقُ بكثيرٍ رغبات الأفراد على مختلِف مواقعهم ومستوى تأثيرهم، إلى الدور المؤسّسي المطلوب – كان وما زال مطلوبًا - في وعي السياسة التي قادت بالأساس إلى أن نبدأ مأزومين من جانب، ورسم سياسةِ حلٍّ للخروج من الأزمة على الجانب الآخر. أخيرًا.. لم تكن التَّجرِبةُ السياسيّةُ الفلسطينيّةُ قبل وبعد "أوسلو" وعلى تلاوينها المختلفة خارج المنهجيّة الفكريّة التي انحكم لها الجميع، من حيث الافتقاد إلى رؤيةٍ سياسيّةٍ وفكرٍ مبنيٍّ على قراءةٍ واضحةٍ لطبيعة الصراع وجوهره، وميزان القوّة المُحدد له، وهذا ما جعل الانتقال سريعًا، بل متسرّعٌ بين أطروحاتٍ متناقضةٍ مسّت في حقيقة الطابع الوطني للصراع، وما تزال مستمرّة: فهل نحتاج في كلِّ مرّةٍ للعدوّ كي يصحّح لنا أخطاءنا.. ويوجّهنا إلى بوصلته التي تُعلن بصراحتها الفجة: إنه العدو؟!

انشر المقال على: