الجمعة 19-04-2024

الصهيونية الجديدة أم الصهيونية المستمرة ؟

د . فوزي الاسمر

الصهيونية الجديدة أم الصهيونية المستمرة ؟
بقلم :د. فوزي الأسمر

يدور في إسرائيل بين الحين والآخر نقاش حول الصهيونية حاضرها ، ومستقبلها بشكل عام . ويثار في أكثر من مرة السؤال :هل حان الوقت لهذه الحركة أن تخرج للتقاعد بعد أن حققت أهم أهدافها؟ أم أن الصهيونية بمضمونها الفكري اليهودي هي "حركة تحرر قومي يهودي " ويمكن أن تتطور مع مسيرة الزمن ؟
وقد لفت نظري مقال مطول كتبه المعلق السياسي المعروف ، جدعون ليفي ، بمناسبة إحتفال إسرائيل بعيد" إستقلالها " الرابع والستين في عدد خاص لصحيفة "هآرتص " ( 26 /4/2012 ) حمل العنوان المثير التالي :" لنُخرج الصهيونية إلى التقاعد " .
ويقول الكاتب أنه بعد مرور 64 سنة على قيام الدولة لا أحد يعرف " ماذا تبقى للصهيونية أن تعمل " . فقد أستطاعت هذه الحركة ، يقول الكاتب ، أن تجلب ثلث عدد اليهود في العالم إلى إسرائيل .ويقرر ليفي أن الصهيونية بحلتها الحالية غير مفيدة ، بل إنتهت فائدتها بعد قيام دولة إسرائيل . ويعتقد كذلك أنها أنتقلت من كونها حركة سياسية لتصبح حركة دينية .
ويضيف الكاتب أن الصهيونية بمفهومها الحالي أصبح معناها سرقة أراضي الغير وإقامة المستعمرات اليهودية عليها, ووجود ضباط وجنود متوحشين في تعاملهم ، وتأييد إسرائيل بكل ما تقوم به ، وجمع التبرعات للمشاريع الإستعمارية، وطبعا إستمرار السيطرة على شعب آخر . هذه هي الصهيونية اليوم .
أما من يعارض التمييز ويطالب بحقوق الإنسان ويرفض الإحتلال وممارساته ، ويرفض " الإستيطان " فأنه بنظر الصهاينة " معاد للصهيونية " . ويرى الكاتب أنه قد حان الوقت لإقامة حركة صهيونية جديدة ، يتولاها الشباب ، ويضعون فيها روحا جديدة تتماشى مع روح العصر، وأن تكون حركة ترفض السيطرة على شعب آخر وترفض الإحتلال وممارساته . ولكن هذه لن تكون الصهيونية . فالصهيونية التي حَدّد بنودها الذين قاموا عليها ، ترفض هذا المنطق ، لأنه يتعارض مع تطلعاتهم وطريقة الحياة التي اختاروها للدولة اليهودية .
فهل حقيقة أن الحركة الصهيونية قد حققت كل أهدافها ؟ وهل يمكن تطويرها لتصبح حركة إيجابية في منطقة الشرق الأوسط ؟ لا أعتقد ذلك . لقد حققت هذه الحركة جزءا مهما جدا، وهو إقامة الدولة وإحياء اللغة العبرية ، والسيطرة الإعلامية في العالم وإقامة منظمات الضغط ( اللوبي ) .ولكن هذه ليست كل أهدافها . بل هناك أهداف أخرى في مقدمتها السيطرة على ما يسمى " أرض إسرائيل " ، وفرض هيمنة على منطقة الشرق الأوسط وعلى إقتصادها، وغيرها من الأهداف .
فعندما تكونت فكرة الحركة الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر ، كانت تهدف إلى إقامة دولة لليهود على أية رقعة أرض في العالم، وليس في فلسطين فقط . ومن جملة الأماكن التي إقترحت على مؤسس الحركة ،ثيودور هرتصل ، كانت : الأرجتين أو كندا أو أوغندا أو جنوب أفريقيا وغيرها إلا أن الصهاينة رفضوها لأن هذه الأماكن لا تتمتع بالحافز الذي يمكن أن يقنع اليهود بالهجرة إليها ، مثل الحافز الفلسطيني أوالأرض المقدسة أو أرض إسرائيل .
والواقع أن الكثير من يهود العالم رفضوا الفكر الصهيوني منذ البداية ، لأنهم رأوا فيه تناقضا مع مسيرة حياتهم . يهود ألمانيا رفضوها وهذا هو السبب الذي حدا بهرتصل أن لا يعقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة ميونخ الألمانية ، كما كان مخططا له ، واختار بازل السويسرية .
ورفض يهود أمريكا الشمالية المبدأ الصهيوني ، وعقدوا مؤتمرا في مدينة مونتريال الكندية عام 1897 أي في نفس السنة التي عقد فيها المؤتمر الصهيوني الأول . وصدر بيان عن المؤتمر ومما جاء فيه :" إننا نشجب تماما أي مبادرة تهدف إلى إنشاء دولة يهودية ، وأن أية محاولات من هذا القبيل تكشف عن مفهوم خاطئ لرسالة إسرائيل التي كان الأنبياء اليهود هم أول من نادى بها . كما نؤكد أن هدف اليهودية ليس سياسيا ولا قومية ولكنه روحي " .
وفي الندوة التي شاركت بها في جامعة " جورج مايسون " ( 25/4/2012 ) كان الحاخام يسرائيل وايس ، هو المشارك الثاني . وبدأ كلمته بقوله :" إن المفروض في اليهود أن لا تكون لهم دولة لأننا منفيون بأمر إلهي " . وقال أن الفكر الصهيوني حول اليهودية من ديانة روحية إلى شيء مادي حمل هدفا قوميا للحصول على قطعة أرض يقيم عليها دولة وهذا العمل يتناقض ومبادىء الدين اليهودي .
والحاخام وايس يمثل قائدا فكريا في مجموعة " اليهود المتحدون ضدّ الصهيونية" والتي تلعب طائفة " نوتوري كارتا " دورا رئيسيا فيها . وهي مجموعة كبيرة منتشرة في جميع أنحاء العالم وجزء من أعضائها يقيمون في حي " مائة شعاريم" في مدينة القدس ، لا يدفعون الضرائب لدولة إسرائيل ، ويرفعون الأعلام السوداء في يوم عيد "الإستقلال" الإسرائيلي ، ويرفضون أن يحملوا جواز سفر إسرائيلي .
من هذا المنطلق يمكننا أن نفهم أبعاد موقف جدعون ليفي ومن يشاركوه في الرأي . فالصهيونية لم تكتف بأنها تمثل " حركة تحرر قومي " كما يسمونها ، ولكنها إستغلت البعد الروحي في الديانة اليهودية كي تنفذ مآربها . وحولت المفهوم اليهودي الروحي إلى مفهوم مادي يتضمن القتل والسرقة وتحريف التاريخ والواقع ، وهضم حقوق الإنسان ، وبث التمييز العنصري والكراهية ضدّ شعوب أخرى كلها بإسم الدين اليهودي . وحولت الدين إلى قومية دون أن يكون لها مقومات القومية .
وفي خضم ذلك تقوم الصهيونية بتحريض الشباب اليهودي في العالم بعدم الإنتماء القومي للدول التي يعيشون فيها أبا عن جد ، مهددين انه :" في يوم من الأيام سيظهر هتلر ثاني". ففي الأمسية المذكورة مع الحاخام وايس ، جاء شاب يهودي أمريكي وأراد أن يناقشني عن القومية . وقبل أن يبدأ سألته : أين ولدت ؟ فقال في أمريكا ووالدك ؟ في أمريكا أيضا ، فقلت إذن أنت إذن يهودي أمريكي . عندها نظر هذا الشاب مباشرة في عيني وقال : لا . أنا أحمل جنسية هذه البلد ( أمريكا ) وليس قوميتها إن قوميتي يهودية إسرائيلية .
فالواقع أن الفكر الصهيوني لم يتغيير ، ولم يتطور ، فمنذ البداية كانت مبادئ هذه الحركة تدعو إلى طرد السكان العرب من فلسطين بأية طريقة ، والسيطرة على أراضيهم وممتلكاتهم ، وقد بدأ ذلك قبل وبعد حرب 1948 ، واستمر بعد حرب 1967 ، وما يحدث في الأراضي المحتلة منذ ذلك الإحتلال حتى كتابة هذه السطور هو شهادة حية على إستمرارية الفكر الصهيوني التقليدي . فهي لم تحتل فقط فلسطين التاريخية ، بل مرتفعات الجولان السورية التي ضمتها إليها وأقامت المستعمرات اليهودية عليها ، ومزارع شبعا في جنوب لبنان. وجزيرتي تيران وصنافير السعوديتين ( محتلة منذ عام 1967 ) .
إن فكرة إقامة حركة صهيونية جديدة ،كما يراها ليفي ومن يشاركه الرأي ، تناقض ما قامت بها الحركة القديمة ‘ فإنها لن تكون حركة صهيونية بالمعنى التقليدي ، ولكنها ستكون حركة صهيونية لإنقاذ اليهود من أنفسهم .

انشر المقال على: