الجمعة 19-04-2024

الشهيد القائد صابر محي الدين

موقع الضفة الفلسطينية

الشهيد القائد صابر محي الدين

ولد الرفيق صابر محي الدين في السيلة الحارثية قضاء جنين عام 1948، وعبر عن التزامه بقضيته الفلسطينية وهو في صفوف الدراسة الثانوية فانتمى لحركة القوميين العرب عام 1966 وبعد هزيمة حزيران 1967 واصل نضاله بالجبهة الشعبية منذ تأسيسها.
ناضل في مختلف المواقع النضالية، وأصبح عضواً في المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين منذ العام 1981.
عمل في الصحافة الفلسطينية، وساهم في تطويرها، وتولى مسؤولية الإعلام والناطق الرسمي للجبهة ورئاسة تحرير مجلة "الهدف"، وعرف بدماثته ونبل أخلاقه وحرصه على الوحدة الوطنية.
عمل الشهيد بدأب ونشاط ومثابرة في تقديم الرؤية السياسية الناضجة والتحليل العلمي، الذي ينم عن ثقافة ومعرفة منهجية وامتد نشاطه السياسي وإنتاجه الفكري لأكثر من ثلاثة عقود في صفوف الثورة الفلسطينية.
كان للشهيد مواقف ثابتة في تقييمه ورؤيته لجوهر الصراع الفلسطيني العربي – الصهيوني ، كان قومياً عربياً بتفكيره ومناضلاً صادقاً صلباً من أجل العودة إلى فلسطين، يتمتع بإرادة قوية لا تلين تاركاً أثراً بالغاً لدى رفاقه ومحبيه.
حاز الرفيق الشهيد على عضوية العديد من المؤسسات الوطنية فكان عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني، وعضو المجلس الأعلى للثقافة والعلوم في المجلس الوطني، وعضو الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين، وعضو أمانة سر لجنة الدفاع عن الثقافة الوطنية الفلسطينية، كما شغل موقع مدير مركز الغد للدراسات حتى استشهاده.
كان الرفيق الشهيد نموذجاً للقائد والسياسي والمثقف الذي كرس حياته خدمة لقضايا شعبه وأمته وفي سبيل حرية وطنه وانتصار قضيته ، وقد فقدناه وهو يدافع عن حق شعبه في نيل الحرية والاستقلال والخلاص من نير الاحتلال الصهيوني الغاشم. فاستشهد يـوم السـبت 20/9/2003 أثناء تأدية واجبـه الوطنـي.
صفاته:
ربما تكون صفة: الأناقة هي التي تسبق غيرها عند الحديث عن صابر محيي الدين. لا أتحدث عن أناقة اللباس، فهي شائعة لدى كثيرين، إنما أقصد تلك الأناقة التي تنبعث من الروح وتشيع في كيان الإنسان كله. كان في صابر، ذلك الحياء والحشمة واللغة المهذبة والسلوك المتأني الذي لا غبار عليه، وتلك الشجاعة الأدبية، التي لا تداري ولا تجاري، التي ارتضت أن تكون زميلاً للحق ورضي الحق أن يكون زميلاً لها. ولعل هذه الأناقة الروحية المتصلة هي التي فصلته عن أصحاب الأرواح القبيحة، وأملت عليه أن يجابههم بلا مساواة، وأن يتحدث مع غيرهم بأدب جم واحترام كبير. كأن صابر، الذي كان مشغولاً كل الوقت، أراد أن يكون مثالاً لغيره، أو كأنه تعرّف على مثال أنيق منذ زمن الطفولة، وسار وراء ما اختار راضياً مطمئناً.
كان فيه تلك النزاهة الموجعة، التي تتعب الآخرين أحياناً، وتُلحق به تعباً شديداً في معظم الأحيان. لم يكن يعمل بل كان يناضل، ولم يكن يشتغل بل كان يُصلح وينقد ويربّي ويهاجم ويكدح، ثم ينطوي على نفسه صامتاً أو قريباً من صمت مجلّل بالكآبة. وهذه النزاهة، التي تمنع عنه الراحة داخل العمل وخارجه، كانت تستنفر روحه وأعصابه وعقله وأحاسيسه، كما لو كان مسؤولاً عن الآخرين قبل أن يكون مسؤولاً عن ذاته، ومسؤولاً عن أحوال »الهدف«، قبل أن يلتفت إلى عائلته ومسرّاته القليلة. كان يقرأ المقالات، كل المقالات، مدقّقاً متأنّياً متمهّلاً، معياره الأمانة ومرجعه حسن العمل، يحذف ويضيف ويلغي، كي تكون المقالة على صورة »الهدف«، وتكون الأخيرة على صورة رئيس تحريرها، ويكون الطرفان على صورة قضية فلسطين. لم يكن يعمل كان يجاهد، ويرى في علاقات الكتابة والقراءة جهاداً مفتوحاً، بقدر ما كان يرى الجهاد في مجابهة الكتابات الفاسدة، التي تأخذ بالقارئ إلى مكان لا نور فيه ولا معرفة.
شيء ما من الفضيلة الهادئة كان يصاحب »الرفيق صابر«، شيء ما من الغضب النبيل المروَّض الذي لا يظهر في الصوت ويبدو جليّاً في العينين كان يلازم الصديق الراحل، فهو يحاسب ويمعن في المحاسبة، وينقد ويوغل في النقد مدركاً، برهافته العالية، أن الذي لا يعرف المحاسبة والنقد لن يعرف الطريق الصحيح إلى الوطن. كأن صابر، الذي تعلّمت منه أشياء كثيرة، أراد أن يبرهن أن مَنْ يتساهل في الأمور الصغيرة يتساهل، لاحقاً، في أمور كثيرة، وأن من لا يكون صادقاً مع ذاته ومع الآخرين، لا يكون صادقاً في الدفاع عن القضية التي ينتسب إليها. وكان على »صابر«، الذي كان يرى ما يريد، ويرى ما لا يريد، أن يظل صابراً، معتبراً الصبر المحسوب فضيلة أخلاقية وضرورة »تنظيمية« في آن. كان ذلك الرجل في صبره يجسّد »الانضباط الحزبي«، الذي يرمي بأرواح لا متجانسة في حقيبة واحدة، رامياً على الأخلاقيين الكبار، وهم ندرة، بأسى شفيف يدفع بالجسد، شيئاً فشيئاً إلى الإرهاق والتداعي. لهذا كان منضبطاً في الكلام والحكم، هاجساً بمرجعه الحزبي، وكان منضبطاً في القول والمبادرة، منتظراً ما ينتظر، وكان منضبطاً في السلوك دون أن ينتظر أحداً، لأن الانضباط الأخلاقي كان من صفاته الذاتية.
شيء ما من الأناقة كان يخفق فوق صابر محيي الدين، وأشياء من فضيلة التطهّر والكمال، وأشياء كثيرة من الأخلاق والتعاليم الأخلاقية. كان فيه، قولاً ونظراً وعملاً، ما يذكّر بوحدة ضرورية بين السياسة والأخلاق، وبين الأخلاق والعمل التنظيمي، مؤمناً بأن الانتماء إلى منظومة أخلاقية – قيمية شرط للانتماء الحزبي ومبتدأ له، بعيداً عن نماذج كثيرة، تناثرت في كل مكان، تتقن بلاغة »التحزّب« ولا تتقن من الأخلاقية الحزبية شيئاً. لهذا كان متعباً بفكرة الذي يجوز والذي لا يجوز، ومرهقاً أكثر بمحدودية الاختيار، ذلك أنه كان إنساناً أخلاقياً وحزبياً منضبطاً في آن، ولا يقبل التنازل عن الأمرين معاً. ما الهدف من مجلة الهدف؟ كنا نتبادل السؤال ويجيب كل منا على طريقته، محاولاً أن يعطي شيئاً من صبره إلى »المثقفين«، مبرهناً أن الصبر فضيلة ثقافية، وأن على المثقفين أن يتعلموا الكتابة والصبر معاً.
كان فيه ما يمكن أن يدعى بـ »الفلسطيني الكلي«، الذي يعيش الحال الفلسطيني ويناضل فيه بلا انقسام ولا انفصام. لهذا لم يكن ينظر إلى خصمه السياسي، في الساحة الفلسطينية، بمنظور الكراهية والاتهام والتصغير، بل بمنظور التأسي والخيبة، ذلك أن الخسارة في اتجاه فلسطين محدد هي خسارة لجميع الفلسطينيين. وكان على صابر أن يتأسى مرات كثيرة، منذ أن تُرك ناجي العلي يواجه مصيره وحيداً إلى زمن تهميش »اليسار الفلسطيني«، ومن زمن حروب المخيمات المتواترة إلى زمن تهميش القضية الفلسطينية. كان عليه أن يكتب أحياناً، وأن يفكر ويتأمل ولا يكتب ما يريد أن يكتب، وأن يحاور الكثيرين، أحياناً، إذا أراد معالجة قضية جديدة. إنه »المناضل المحترف«، أو »الثوري المحترف«، كما يقال أو كان يقال، مع تصحيح جوهري: عاش صابر محيي الدين حياته داخل قضية لا داخل حرفة، أو مهنة، كما لو كانت القضية مرآة حياته، ومبرراً لها. إنه الاحتراف الذي يلبي الروح والشرف والأخلاق، بعيداً عن احتراف مغاير، يقرّر الحسبان في النهاية، أو يقرّره الحسبان في البداية والنهاية.
في كل ما سبق كان صابر عنواناً كبيراً للمسؤولية الأخلاقية والوطنية، مسؤول عن غيره هو، دون أن يسأل الآخرين أن يكونوا مسؤولين عنه. حين التقاه أحد رفاقه بعد سنوات، كانت ابتسامته الشاكية لا تزال مكانها وقد علت وجهه صفرة كامدة، فسألته: »كيف حالك«؟! أجاب: »كيف ترى حالتنا«. قال له إنني أسأل عن صحتك، قال: وأنا أسألك كيف ترى أوضاعنا السياسية؟ لم يجب عن السؤال، بل جعله يتذكر قلقه الذي لا ينقضي، عن سبل تطوير العمل الفلسطيني، في أشكاله المختلفة. كان يكتب ويكثر من الكتابة، حين تشتد الأزمات، وهي كثيرة، باحثاً عن حل لقضايا لا حل لها، ولأخرى قابلة للحل. لو اجتمع حولها بشر لهم نزاهته، ولهم ذلك القلق الشريف الذي لازمه حتى اللحظة الأخيرة.
رفيقنا صابر صفحة فلسطينية، ولا تزال، من صفحات كثيرة، خطّها كثيرون بأشكال مختلفة: خطّها الفلسطيني المجهول الذي استشهد على حافة المخيم، وغسان كنفاني، الأديب القائد الشهيد، وناجي العلي قتيل المنفى، وتفكك المسؤولية، وأجيال الانتفاضة المتواترة، وجيش الأطفال الفلسطينيين الذين فرقتهم القنابل الإسرائيلية، وجيوش كثيرة من هؤلاء الذين يقضون كراماً، مؤمنين بالحق والعدالة، وبحق الفلسطينيين في عيش كريم. إلى هؤلاء جميعاً ينتمي صابر محيي الدين، الذي كان يرى الثقافة في القيم والكفاح الأخلاقي من أجل القيم، قبل أن يعترف بها في حدود المكتوب والمقروء ذلك أنه آمن منذ زمن طويل، بأن الثقافة هي سلوك في الحياة اليومية، قبل أي شيء آخر.
سار صابر في الدرب الذي اختاره، ولم يختر نهاية الدرب، متمنياً على آخرين أن يكملوا مساره.

انشر المقال على: