الثلاثاء 07-05-2024

الآثارُ الجيوسياسيّة - والفضائيّة للعمليّة العسكريّة الروسيّة في أوكرانيا

×

رسالة الخطأ

حاتم استانبولي

الآثارُ الجيوسياسيّة - والفضائيّة للعمليّة العسكريّة الروسيّة في أوكرانيا
حاتم استانبولي
الخميس 21 ابريل 2022 | 10:33 ص

في البدايةِ لا بدَّ أن يُشارُ إلى أنّ الصراعَ على أوكرانيا لا يمكنُ قراءته بمعزلٍ عن الحرب على روسيا، بل هي نتاجٌ لها. الحربُ على روسيا هي امتدادٌ للحرب على الاتّحاد السوفييتي الذي أخذ أشكالًا وأساليبَ متعدّدة؛ سياسيّةً وإيديولوجيّةً وإعلاميّةً واقتصاديّة، وما بينها كان العامل الديني، يؤدّي دورًا خفيًّا بين هوامش الأشكال والأساليب.

ورثت روسيا تركةَ الاتّحاد السوفييتي بكلّ ما تعنيه التركةُ من معنًى بإيجابيّاتها وسلبيّاتها، بما فيها الحربُ عليها التي كانت تشتدُّ وتخفُّ وتيرتُها، تبعًا لمدى نجاح أو تعثر ابتلاعها وهضمها في منظومة رأس المال الإمبرياليّ؛ هذهِ المنظومةُ التي طالما تعاطت مع روسيا الاتّحاديّة بسياسة العصا والجزرة، خاصّةً بعد دخول الرئيس بوتين الكرملين الذي بدأ يرسم سياسةً جديدةً تقوم على أساس إعادة الدور الإقليميّ والدوليّ لروسيا الاتّحاديّة. فلقد كان الشعور الغربيّ بالتفوّق والغرور، سببًا في عدم قراءة التحذيرات الروسيّة التي جاءت في كلمات ومقابلات الرئيس بوتين في مناسباتٍ عدّة، وأبرزها خطابه عام 2007، الذي أعلن فيه عن ضرورةِ توقّف سياسة الانفراد بالقرار الدولي، بعيدًا عن الشرعيّة الدوليّة ورفض سياسة القطب الواحد. كما عبّر في احتفال الانتصار على الفاشية 9 أيار عن امتعاض روسيا من السياسة الغربيّة، خصوصًا محاولات بريطانيا التي تسعى إلى إعادة كتابة التاريخ في إشارةٍ إلى تغييب دور شعوب الاتّحاد السوفييتي وتضحياته في القضاء على النازية.

كما أشار في خطاباته السنويّة خاصّةً (2016) إلى ضرورة مراعاة المصالح الروسيّة، وبأنّه ولن يتهاون في الدفاع عن مصالح روسيا القوميّة، وأعاد للأذهان ما ذكره سابقًا حولَ رؤيةِ روسيا الاتّحاديّة للنظام العالميّ الجديد المتعدّد الأقطاب، الذي يعزّز القانون الدوليّ ومؤسّساته القانونيّة، وأشار إلى أهميّة التعاون الروسيّ الصينيّ، في تعزيز استقرار العالم القائم على تعدّد الأقطاب الذي يجب أن تقوم فيه الدول الإقليميّة بدورٍ في الحفاظ على الاستقرار العالمي، والأهمّ أن روسيا كانت ستعمل على أساس الردّ المتكافئ في حال تمّ إهمال متطلباتها الأمنيّة التي طالما أعلنت عن ضرورة أخذها بعين الاعتبار، كما طالب بأن تتوقّف الولايات المتّحدة عن سياسة فرض العقوبات الاقتصاديّة من خارج الأطر القانونيّة الدوليّة، منها: سياسة العقوبات التي أصبحت أسلوبًا وشكلًا للحروب الحديثة للولايات المتّحدة وحلفائها ضدّ كلّ من يرفض سياساتها.

بدايةً هذا العام قامت روسيا بتقديم رسالةٍ خطيّةٍ معلنةٍ إعلاميًّا، تطلب فيها الولايات المتّحدة والناتو بإعطائها ضماناتٍ خطيّةً أمنيّةً وقانونيّةً، وبالأخصّ ما يتعلّق بانضمام أوكرانيا للناتو، في خطوةٍ منها لوضع الرأي العام العالميّ على تداعيات رفض الولايات المتّحدة لمتطلّباتها الأمنيّة، التي كان من ضمنها نشاط واشنطن والناتو المعادي، نوويًّا وكيماويًّا وبيولوجيًّا في أوكرانيا.

نفذّت روسيا العمليّة الروسيّة الخاصّة في أوكرانيا، تجسيدًا لمفهوم الردّ المتكافئ الذي أعلن عنه الرئيس بوتين في خطاب ديسمبر 2016، هذه العمليّة التي تهدف إلى القضاء على النشاط المعادي المتعدّد الأشكال والأوجه، الذي حصل وما زال منذ انقلاب كييف 2014، وما ترتّب عليه من ردّ فعلٍ روسي، أدّى إلى ضمّ شبه جزيرة القرم، وبدء الحرب في إقليمي لوغانسك - دونباس. فكما هو معروف، عندما تتعطّل السبل الدبلوماسيّة تفتح الطريق إلى الطرق الحربيّة في حلّ التناقضات والاختلافات الجديّة، هذا ما يفسّر ما يجري الآن من معاركَ في أوكرانيا، وهذه المعارك ذات طابعٍ عسكريٍّ واقتصاديٍّ وإعلاميٍّ، ونتائجها على الأرض ستحدّد مستقبل العلاقات الدوليّة وتعيد صياغة منظومتها القانونيّة.

إذا كانت معاركُ سوريّة قد أعادت روسيا لدورها الدولي قوّةً فاعلةً ومقرّرة، فإنّ نتائجَ معارك أوكرانيا، سوف تعيد إرساءَ قواعدَ جديدةٍ للعلاقات الدوليّة، تسقط القطبيّة الواحدة، لتعطيَ دورًا أكثرَ فعاليّة للدول الإقليميّة الفاعلة في إطار القواعد الجديدة للعلاقات الدوليّة، وسيكون لها أثرٌ واضحٌ على ترتيباتٍ جيوسياسيّةٍ وجيوفضائيّةٍ جديدة، تراعي مصالح القوى العالميّة الصاعدة.

الواضحُ أنّ كلا الطرفين المتصارعين، أخرجا كلّ ما في جُعبَتَيْهِما من وسائلَ هجوميّةٍ ودفاعيّة، حيث بات واضحًا أنّ كلًّا منهما لن يقبل الخسارة، لأنّها ستكون مكلفة، لدرجة من الممكن أن تصل إلى كسرٍ نهائيٍّ لأحد طرفي الصراع، حيث هنا تكمن الخطورة في طبيعة هذا الصراع، الذي يمكن أن يخرج عن السيطرة في أية لحظةٍ ويتطور إلى وسائل تكون كارثيّةً على البشريّة، وفي هذا السياق، يجب أن يُفهم تصريح الرئيس بوتين - لا يمكن أن يكون هنالك عالم دون روسيا - هذا التصريح الذي لم يؤخذ على محمل الجدّ من قبل واشنطن والغرب.

إنّ الرئيس الأوكراني يريد أن يدفع حلف الأطلسي إلى مجابهةٍ مباشرةٍ مع روسيا؛ بهدف تحقيق إمكانيّةٍ لإنقاذ نظامه وحاضنته النازيّة، في حين واشنطن والناتو لا يريدان هذه المواجهة التي حددوها في إطار الصراع الشخصي مع الرئيس بوتين وأطلقت شعارًا: إنّها لن تسمح بانتصاره في أوكرانيا، كما حدث في سوريّة. فسياسةُ الشيطنة التي تتبعها واشنطن وحلفاؤها تجاهَ روسيا وشعبها ورئيسها، دفعت القوى الأوروبيّة الأكثر يمينيّةً إلى إخراج ما في جعبتها من عنصريّةٍ تعدّدت أوجهها حتى وصلت إلى الثقافة والأدب والتعليم وحظر الوسائل الإعلاميّة، ناهيك عن الحرب الاقتصاديّة التي طالت الممتلكات الشخصيّة والعامة والأرصدة والاستثمارات الحكوميّة والفرديّة للروس في كلّ البلدان الغربيّة، في موقفٍ واضح، يعبّر عن سياسة عقابٍ جماعيٍّ لكلِّ من ينطق بالروسيّة.

تداعياتُ الأزمةِ الأوكرانيّةِ بدأت قبلَ سكوتِ المدافع:

التداعيات الأخلاقيّة: الكراهية التي تفجّرت في الغرب ضدّ كلّ ما هو روسيّ، يوضّح مدى تفشّي روح العنصريّة والفاشيّة، خاصّةً في بلدانٍ مثل: بولندا وإيطاليا وبعض الحواضن النازيّة في دول الشمال وبريطانيا وألمانيا وواشنطن، التي عبّر عن بعضها سياسيّون وإعلاميّون يقارنون بين اللاجئين السوريّين والأفغانيّين، وبين الأوكرانيّين، في إشارةٍ إلى لون البشرة، على اعتبار أنّ الأوكرانيين هم منا في إشارةٍ إلى العرق الأبيض. بالرغم من أنّ كلّ اللاجئين الذين وفدوا إلى أوروبا منذ نكبة فلسطين، كانوا هاربين من حروبٍ وسياساتٍ دعمها الغرب أو حروبٍ وغزواتٍ قامت بها واشنطن وزعماؤها في العالم، منذ الحرب الكوريّة إلى فيتنام إلى أفغانستان وصربيا إلى العراق ولبنان وغزة واليمن وسوريّة وعمليّات القتل اليومي في فلسطين.
التداعيات الإعلاميّة: قرارات الحظر الإعلامي التي نتج عنها حظر كلّ وسيلةٍ إعلاميّةٍ تنطق بالروسيّة، يسقط المفهوم الليبرالي الغربي حولَ حريّة الرأي والتعبير وحقّ المواطن في الحصول على المعلومة والرأي الآخر، هذه القرارات التي تعبّر عن سياسة فرض الاتجاه الإعلاميّ الواحد الموجّه من قبل الحكومات الغربيّة، وهذه السياسة التي كانت تهاجم بها الحكومات الغربيّة بعض النظم، تحت عنوان حرية الإعلام والرأي، حيث إنّ هذه السياسة حرمت المواطن الغربي من الاطلاع على الرواية الأخرى من جهة، ومن جهةٍ أخرى، كرّست سياسةً حكوميّةً، تقول: إنّ الحكومات هي الوحيدة التي تعلم ما يستحق المواطن الاطّلاع عليه، في سياسةٍ تتلاقى بها مع الأنظمة التي يتهمها الغرب بـ الدكتاتوريّة والفرديّة.
التداعيات الاقتصاديّة: العقوبات الاقتصاديّة لدولة مثل روسيا، يسهم اقتصادها بشكلٍ فعَّالٍ دورة الاقتصاد العالمي والأوروبي خاصّة، سيكون له تأثيرات على المدى القصير والطويل على منظومة العلاقات والأدوات والوسائل الاقتصادية الرأسمالية. إنّ سياسة تجميد الأموال والأرصدة الحكوميّة والفرديّة، نتيجةَ قراراتٍ سياسيّةٍ للحكومات الغربيّة، سيضع النظام الرأسمالي القائم على حرية السوق وقوانينه عرضةً للتشوّهات الهجينة التي ستؤثر على ثقة الدول النامية والصاعدة في مركز رأس المال الغربيّ الإمبريالي، ويوضّح طبيعته العدوانيّة المافيوية التي تخضع للقرارات السياسيّة العدوانيّة التي تقوّض قوانين السوق الرأسماليّة، هذه السياسات التي تتناقض مع الليبراليّة الاقتصاديّة والسياسيّة والإعلاميّة والاجتماعيّة.
التداعيات القانونيّة والسياسيّة: من الواضح أن فشل الأدوات السياسيّة والقانونيّة في حلّ الأزمة الأوكرانية، كانت نتيجةً واضحةً لسياسة التجاهل والغرور الغربي الإمبريالي وأفعالها المتكرّرة خارج القانون الدولي وأدواته ومؤسّساته، بدأ من قضيّة فلسطين وما تبعها من اعتداءاتٍ وغزواتٍ إمبرياليّة، بالإضافة لسياسة تقويض الدول وتفكيكها لإعادة تركيبها، بما يتوافقُ مع سياسة الغرب الإمبرياليّ، بعد انهيار الاتّحاد السوفييتي، وتنامي مواقف لواشنطن وحلفائها، بأنّ المؤسّسات الدوليّة التي نتجت عن الحرب العالمية الثانية، أصبحت عاملًا معيقًا لسيطرتها وطموحها وتتعارض مع الشكل الاقتصادي الإمبرياليّ، الذي يقوم على سياسة كسر الحدود القوميّة والوطنيّة للدول وسيطرة القطب الواحد وأدواته الماليّة الاقتصاديّة. إنّ الأزمة الأوكرانيّة، كانت نتاجًا لهذا المفهوم الإمبرياليّ الذي فكّك الدولة الأوكرانيّة الصديقة لموسكو، وأقام نظامًا مواليًا لواشنطن، من خلال انقلابٍ واضحِ المعالم، تحت عنوان ثورة برتقاليّة وعدتها أوروبا، بأن تكون عضوًا في الاتّحاد الأوروبي، لكنّها لم تفِ بوعدها.
لقد وضّحت الأزمة الأوكرانيّة، معالم نظام تحالفٍ جديدٍ بين الدول الصاعدة، تقوده كلٌّ من الصين وروسيا، وتؤدي فيه دورًا الدولُ الإقليميّة التي نأت بنفسها عن الصراع وسياسة العقوبات الاقتصاديّة والسياسيّة، وبين واشنطن وحلفائها الغربيين وتكتّلاتها السياسيّة والعسكريّة. أمّا عن أوروبا، فإنّها تدرك أنّ نجاح روسيا في أوكرانيا، سوف يسقط استقلاليتها لِتلحقها بالسياسة الأمريكيّة التي استفادت مصانعها الحربيّة، وأحيت قيادتها للعالم الغربي.

بالتأكيد، إنّ نتائج الحرب الرأسماليّة في أوكرانيا وعلى أوكرانيا، سينتج عنها تغيّراتٌ جوهريّةٌ في موازين القوى بين أشكال وتكتلات رأس المال الاقتصاديّة والسياسيّة والعسكريّة والإعلاميّة، فالحربُ القائمةُ هي حربٌ رأسماليّةٌ بين الشكل الإمبرياليّ لها، وبين رأسماليّة الدولة في الدول الصاعدة التي ترى أنّ الحفاظ على شكل الدولة الوطنيّة ضرورةٌ للحفاظ على البعد التاريخيّ والثقافيّ الذي تسعى الدول الإمبرياليّة إلى سحقه ليسودَ مفهومُها السياسيّ والثقافيّ والاقتصاديّ.

صوتُ المدافع في أوكرانيا سيشكّل صحوة، لوقف سياسة الغرور والتفوّق، ويعيد ترتيب المصالح الإقليميّة والدوليّة وتموضعهما، ويكشف ضعف المواقف وهشاشتها، التي تسعى إلى تقويض القانون الدوليّ، وتعمل بشكلٍ منفردٍ من خارجها.

انشر المقال على: