الجمعة 03-05-2024

إعادة إنتاج النكبة

×

رسالة الخطأ

مروان عبد العال

إعادة إنتاج النكبة
16 آيار / مايو 2016
مروان عبد العال
وحدها الضجة التي تحدث عادة في حمى الاحتفالات وعلى وقع نبرات الخطابات المرتفعة والصاخبة، لا يمكنك معها التمييز الدقيق بين الكلمات حتى تكاد ان تقول كل شيء واللا شيء معاً ويضمر وسط الصراخ فحواها ومضمونها ومعناها، فلا تعد بعدها تعرف ان كانت فرحاً ام طرحاً.
تتشابه دقات الطبل اكثر كلما ازدادت قرعاً وافرغت ما في صدور المحتشدين في دائرة الرقص. هكذا وبعد 68 عاماً على النكبة، تكشف ان ليس القدر وحده من جعل منها مناسبة سنوية يتم احياء طقوسها بصور ومشاهد ورموز تجسد حالها وتستدعي ذكراها وسيرتها الاولى وانها لها أب وأم ثم تولد وتحيا وتنمو وتترعرع وتكبر وبلغت من العمر عتياً وتنجب ابناءً واحفاد.
لذلك هي النكبة المستدامة الباقية والحيّة والتي لا تتكل على من يحتفي بها وقد «ادخلتنا في التجربة» رغماً عن أنوفنا، والنكبة لا تحتاج لناطق باسمها لأنها وحدها ناطقة صريحة بذاتها وذواتها وبكل يومياتها وأوجاعها وألامها المتأصلة وهنا المخيم ليس الشاهد على جريمة حصلت بل هو الابن البار للنكبة، وفيه ينعكس التقاطع المزدوج بين القدر والصدفة، القدر ان تكون فلسطينياً، وحسب كلمات شاعرنا محمود درويش: «أنْ تكون فلسْطِينيا ً يَعْنِي أَن تٌصاب بِـ أَملِ لا شِفاء مِنه»..
قدر المخيم ان يعاند النسيان في «مبارزة كبرى» يقاوم فيها كي تكون له الغلبة، أقلها تحقيق شرعية البقاء بصيغة سياسية تسمى «حفظ الوجود» والبقاء ليس كواقع فيزيائي بل كنسيج مجتمعي. يعاند المستحيل ومعه مكوناته وشخصيته الوطنية كشعب مقتلع يتعلم في كل حارة وزقاق كيف يصون الهوية المهددة من كل حدب وصوب بالتبديد والضياع والاختطاف. متوجساً من صدأ الذاكرة التي تحملها الأجيال. كأمانة من جيل ولد قبل النكبة، قيل عنه بصدق «الجيل الأكبر من إسرائيل».. ومن سنن الحياة أن يدخل باب الموت ويترك لنا الحكاية ومفتاح البيت والحق وأيضاً سلاح الارادة التي تدرك معنى قوة الحق، وأن الطغاة مهما كانوا أقوياء لكنه ليس اقوى من الحق، وأن الباطل ليس قدر العالم.
الوقائع تجري لطمس دلالة المخيم، مسح الأدلة وإخفاء القرائن وآثار النكبة، يظن القاتل واهماً ان اخفاء جثة القتيل يعني أنه لا يوجد هناك جريمة. سرقة وتغيير المعالم لو استطاع عن طريق مصادرة مضمون المخيم وتحويله من حاضن للهوية الى نابذ لها بهدف تصفية قضية اللاجئين وما التقاطع اللوجستي الواضح بين المسعى الأمني بطابعه الإرهابي، واقتصادي بواقعه المعيشي، والاجتماعي الظلامي الرهيب إلا الشاهد الحي الذي تديره غرف دولية سوداء تمارسه سياسات متنقلة من مخيم الى آخر، تبدأ بممارسة ثقافة الكراهية لترسم له صورة الجلاد وليس الضحية، وتحويله مجرد بؤرة خطرة وفزاعة ضد المحيط وأن المخيم عود ثقاب جاهز لمن يريد ان يشعل حريقاً. من يفعل ذلك ليس ضد فلسطين فقط بل هو سليل آباء النكبة ورعاتها وأصحابها ودعاة تخليدها مهما كانت هويته او دينه وجنسيته.
بعد أن جاوزت سن التقاعد لكنها لم تهرم تستمد من عجزنا إكسير حياتها، من استمرار الظلم والاستبداد والتسلط وبالاحتلال ونكران الحق والضعف والتشتت، وربما أسوأ النماذج للفشل الدولي بأنها تقوى وتستمر وتتواصل وتتكرر النكبة بالخديعة عبر استمرار العدوان والقتل المتدرج للضحية كأنه اطلاق نار متواصل على ذات الجسد، لصاحب الحق أولا، واخراس الشاهد الدولي ثانياً، ومثله البسيط المجتمع الدولي وبصيغة وكالة الغوث الدولية (الاونروا) ومن خلال تقليص خدماتها وتخليها عن دورها وإجبارها على استحداث سياسة جديدة توائم برنامج الجلاد وليس الضحية.
هل هي مجرد صدفة؟ النكبة حصلت واستمرت كحالة وجع لا ينحصر في فلسطين وحدها بل عوارضها تتبدى في احتلال هوية المنطقة وتغيير الهوية العربية، لأنها كلما طال عمرها حتما تتنتشر كفايروس في كل الجسد، فالمسألة ليس فقط باخراجنا من فلسطين بل اخراج فلسطين منا ومن التاريخ كما الجغرافيا ومن الماضي قبل المستقبل.
ليس صدفة أنها تتوالى وتتضاعف بضعفنا ويزداد جرحها ويتسع ويتفشى بأمراضنا، لأنها مستمرة طالما مقدمات وقوعها مستمرة. وتستمد قوة حضورها من تسويق افكار الانحطاط والتخلف والفتن الداخلية، يوما خاطب «بن غوريون» محاربيه بعد حصول النكبة مباشرة: «انكم لم تنتصروا بسبب قوتكم بل بسبب تفسخ وتخلف وضعف عدوكم» اعادة انتاج التخلف يؤدي الى اعادة انتاج النكبة، هكذا يمر عبر تمزيق الفكرة الجامعة ومن خلال نموذج تصنيف الناس على قواعد جهوية وأسس مذهبية واثنية، محاوله لتدمير البنية الثقافية الواحده والهوية الواحدة، لذلك اقامة هذا الكيان واستمراره في قلب الامة شكل كارثة عربية لازالت فصولها تتوالى، وابقاء حالة الانقسام تتحكم بالمشهد العربي والفلسطيني خصوصاً اي إبقاء الواقع الذي من يسهم باعادة انتاج النكبة وليس مغادرتها.
وحدها النكبة ناطقة، لعلّها تحوير لما قاله الروائي العالمي (ميلان كونديرا) «وحدها الصدفة يمكن أن تكون ذات مغزى، فيما يحدث بالضرورة ما هو متوقع ويتمرر يومياً ويبقى شيئاً أبكم. وحدها الصدفة ناطقة.»
وحدها النكبة صوتها مسموع ويصدح أعلى من ضجيج خطابات المنابر، وإخراجها المتقن في مسرح اللامعقول: ان بعض جيوش العرب تقاتل بعض جيوش العرب! كم نكبة نحتاج كي نستيقظ من غيبوبة الجهل؟ ومتى يبدأ سفر الخروج من نكباتنا الذاتية؟ المستوحاه من الخيارات البائسة على نبض سياسة الارتهان والانحطاط السياسي. لن نغادر النكبة بلا صدمة كبرى واستراتيجية وعي مقاوم وشامل لا يستكين ويسد الجبهات الفارغة بالفكر والثقافة والذاكرة وبسلاح الحق والارادة وتكون فلسطين بمعناها ورموزها ودلالاتها ومقاومتها هي غاية الامة، لأن النكبة برموزها وأقانيمها ومسمياتها ستظل هي التعبير الاكثر كثافة عن حقيقة الصراع وهدف تحرر الامة وحريتها وتقدمها ومستقبلها.

انشر المقال على: