الثلاثاء 14-05-2024

أوروبا تجني ثمار "امركتها" و"لبرلتها المتطرفة"

×

رسالة الخطأ

علي جرادات

أوروبا تجني ثمار "امركتها" و"لبرلتها المتطرفة"
علي جرادات
بوابة الهدف
نتائج الاستفتاء الذي أخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي حدث كبير، وربما تاريخي، اتصالاً بأن أسبابه، وبالتالي تداعياته، ليست بريطانية وأوروبية و"غربية"، فقط، بل عالمية، أيضاً. فالبريطانيون لم يصوتوا لمصلحة بناء " أوروبا أخرى" بنظام ودستور جديديْن، بما يُذكِّر بنتائج انتخابات "البرلمان الأوروبي" عام 2014، حيث امتنع أكثر من نصف الأوروبيين عن التصويت، (علماً أن نسبة التصويت في أوروبا الشرقية بلغت 70%)، بينما صوتت نسبة 6% لـ"اليسار الراديكالي"، ونسبة 20% لأحزاب اليمين المتطرف الذي "يشيطن" مبدأ "الوحدة الأوروبية"، و"يقدس" "الاستقلال القومي"، بخطاب عنصري يغذي أوهام أنه يمكن حلَّ مشكلات الأوروبيين بالتخلص من المهاجرين الأجانب، وبوقف تدفق العمالة الشرق أوروبية إلى غرب ووسط أوروبا. هذا يعني أن أغلبية الأوروبيين، وليس البريطانيين فقط، باتت ترفض مبدأ "الوحدة". وبالتالي فإن تصويت البريطانيين قد يتكرر لدى شعوب أوروبية أخرى في حال تم استفتاؤها، كما تطالب أحزاب اليمين الأوروبي المتطرف، خصوصا في فرنسا، ما يُنذر بتفكك الاتحاد الأوروبي، وربما بعض دوله أيضاً.
هنا، يتضح، أكثر من أي وقت مضى، التزييف المبرمج لوعي الأوروبيين، (وغيرهم طبعاً)، على يد إمبرطورية الاحتكارات الاعلامية المعولمة، لحجب السبب الفعلي لأزماتهم، وهو أن الاتحاد الأوروبي الذي تأسس بموجب اتفاقية ماسترخت، عام 1992، (فور ولادة "نظام القطب الواحد")، قد وُلِد لتعميق تبعية أوروبا للولايات المتحدة، وأنه بُنيَ، منذ البداية، على أساس غير ديموقراطي لا يتيح للبرلمانات المنتخبة تغيير دستوره والفكاك من إملاءات هياكله البيروقراطية غير المنتخبة، وأنه صُمّم، أساساً، لإدامة الليبرالية الاقتصادية الجديدة غير المقيدة، أي لضمان سيطرة الاحتكارات معولمة التمويل، (أكثر من نصفها وأقواها أميركية). وهو ما يجعل هذا الاتحاد لا أداة للتكامل والتنمية الشاملة وحل مشكلات الشعوب، بل أداة لتركيز السلطة الاقتصادية والسياسية بيد أقلية صغيرة، بينما يُفرض التقشف على الأغلبية، ويتواصل تدهور الخدمات وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، ويتزايد العجز المالي، بل والركود، أيضاً. لذلك لا مفاجأة في أن يصبح هذا النظام الليبرالي "المتوحش"، بالنسبة لشعوب أوروبا، ولشعوب العالم بأسره، غير قابل للتطبيق، اتصالاً بأن دافعه الوحيد إدامة تزاوج الثروة والسلطة وتركيزهما بلا حدود.
أما سخاء التصويت لليمين الأوروبي المتطرف، ( أو لصنوه الأميركي الذي يمثله ترامب)، فنتيجة لتغذية الوهم، وينطوي على خطورة بالغة تتمثل في تحميل ضعفاء أوروبا والمهاجرون الأجانب، وليس نظام الاحتكارات المعولمة، مسؤولية ما آلت إليه حياة شعوب أوروبا والعالم من بؤس متعدد الأشكال، خاصة بعد انفجار الأزمة المالية الأميركية، التي تحولت، عام 2008، إلى أزمة اقتصادية عالمية، أسفرت، فيما أسفرت، عن مديونية أوروبية بلغت نحو 10 تريليون دولار، (عدا مديونية عالمية تناهز 35 تريليون دولار، ومديونية أميركية تجاوزت 17 تريليون دولار). لكن لا غرابة، فأحزاب اليمين الأوروبي المتطرف التي تستخدم النتائج الكارثية لهذه الأزمة، تعيد تجربة الأحزاب الفاشية الأوروبية التي استخدمت نتائج أزمة "الركود العظيم" للنظام الرأسمالي، (1929-1933)، حيث وصلت السلطة بخطاب قومي عنصري شعبوي قاد البشرية إلى الحرب العالمية الثانية.
وأكثر، إن أسباب التفكك المرجَّح للاتحاد الأوروبي، وربما لبعض دوله أيضاً، هي ذاتها أسباب التفكيك الحاصل، على أسس ما قبل وطنية، في أكثر من دولة عربية وغير عربية. ففي ظل ربع قرنٍ من السيطرة الأميركية المنفردة والمطلقة على العالم، ومن تطبيقات الليبرالية الاقتصادية الجديدة غير المقيدة، باتت 8 من دول "المركز" تمتلك 80% من الثروة العالمية، فيما باتت 30 شركة احتكارية معولمة التمويل، أغلبها وأقواها أميركية، تسيطر على 70% من السوق العالمية، ما قاد البشرية، وليس دول أوروبا الفقيرة فقط، إلى معضلات الفقر والبطالة والأمية والتخلف والجهل وتدني فرص السكن وانعدام الأمن والاستقرار وانتشار الجريمة وأشكال من حركات إرهابية تبيد كل ما عداها، ناهيك عن نحو مليار جائع، (17% من البشرية)، ونحو مليار بلا مياه صالحة للشرب، وحروب حصدت أرواح أكثر من 3 ملايين إنسان، وخلفت أضعاف أضعافهم من المشردين والمهجرين والجرحى والمشوهين، ودماراً مادياً تقدر كلفته بنحو 5 تريليون دولار.
وبالعودة إلى بريطانيا، فلا مفاجأة، ولا غرابة، في أن تكون أول دولة أوروبية تتجرأ على إجراء استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي. فبريطانيا لم تكن بين الدول المُؤسسة لـ"المجموعة الأوروبية"، عام 1951، ولا لـ"مجموعة السوق الأوروبية المشتركة"، عام 1957، ولا لـ"لاتحاد الأوروبي"، عام 1992. وحتى بعد انضمامها لهذه التشكيلات ظلت بريطانيا تنأى بنفسها عن المشكلات الأوروبية، وتعمق اندماجها في النظام الأطلسي الذي تسيطر عليه واشنطن. إذ رغم عضويتها في الاتحاد الأوروبي" رفضت بريطانيا، مثلاً، الانضمام لاتفاقية "شنيغن" المتعلقة بـ(حرية التنقل بلا تأشيرة بين دول الاتحاد الأوروبي)، واتفاقية توحيد العملة الأوروبية، حيث ظلت خارج "مجموعة دول منطقة اليورو".
المهم، هنا، هو أن تصويت البريطانيين لمصلحة الخروج من الاتحاد الأوروبي يشكل جزءا من تيار شعبي أوروبي واسع لا يمكن تجاهله. إذ حتى، وإن كان التصويت البريطاني بأغلبية بسيطة، (نحو 52 مقابل نحو 48%)، فإن من المشكوك فيه أن يستخدم البرلمان البريطاني صلاحيته الدستورية بعدم تنفيذ نتيجة هذا التصويت، لأنه بذلك يتجاوز إرادة 30 مليون مواطن شاركوا في الاستفتاء، ويُدخل بريطانيا، (وهنا الأهم)، في أزمة سياسية وأمنية داخلية كبرى.
ولعل ما يزيد تداعيات الخروج البريطاني تعقيداً وخطورة هو أن ألمانيا، المرشح الأول لقيادة أوروبا، تتردد كثيرا في أن تتقلد هذا الدور، في ظل التراجع الأوروبي الدرامي، وما تعانيه دول أوروبا الفقيرة، خصوصا دول أوروبا الشرقية، من مشكلات اقتصادية كبيرة، تجعل عضويتها في الاتحاد الأوروبي إما عبئاً ثقيلا على المانيا، وهو ما ترفضه الأخيرة، أو شبه مستعمرات ألمانية، وهو ما ترفضه شعوب هذه الدول. أما فرنسا، المرشح الثاني لقيادة "أوروبا العجوز"، فأزماتها الاقتصادية والسياسية الداخلية لا تؤهلها للقيادة، بل وتجعلها ثاني دولة أوروبية مرشحة للخروج من الاتحاد الأوروبي. هذا عدا أن النخب الفرنسية، الحاكمة والمعارضة، ليست في وارد إحياء السياسة الديغولية لزيادة الاستقلال النسبي لأوروبا عن واشنطن، علماً أن أزمات الأوروبيين لا يحلها غير تغيير نظام اللبرلة الاقتصادية المتوحشة لأوروبا، وفك نظام تبعيتها لواشنطن الذي بدأ مع إعادة إعمارها بمشروع مارشال الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية.
قصارى القول: إن دول الاتحاد الأوروبي تجني الآن، (كغيرها من دول العالم)، ثمار "أمركتها" و"لبرلتها المتطرفة" المتمثلة في سياسات فتح الأسواق وتحرير التجارة وخصخصة القطاعات الإنتاجية والخدمية وتقليص شبكة الأمان الاجتماعي، وبناء المناطق الحرة الموجهة للتصدير وغير الخاضعة للجمارك، وتشجيع الاستثمار الأجنبي، ورهْنِ أو بيع الأصول الوطنية، وتعظيم نزعة الاستهلاك وتراكم الديون الداخلية والخارجية. وهي السياسات التي حولت أغلب دول العالم إلى أسواق استهلاكية ومناجم يستنزفها المركز الرأسمالي العالمي الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة. هذا يعني أن الأوروبيين إنما يحصدون نتائج الخلل البنيوي لنظام الرأسماليات "الغربية" الذي تطرف لدرجة إلغاء دور الدولة حتى الرقابي على المضاربات في البورصة، (مركز الثروة الاقتصادية العالمية اليوم)، ما أفضى إلى ضرْب حتى ما بناه النظام الرأسمالي نفسه، في مراحل سابقة، من قطاع عام وصل أحياناً إلى 20-30% من الاقتصاد الكلي، ومن اقتصاد انتاجي استوعب الشغيلة، وشيَّد المدن المعاصرة، ونشأ في ظله مجتمعاً مدنياً تمثله تنظيمات اجتماعية ونقابية ونسوية وأحزاب سياسية ومؤسسات اكاديمية وإعلامية وحريات وحقوق..الخ

انشر المقال على: