الزمكانية في رواية خريف يطاول الشمس
بقلم: نازك ضمرة
العنونة قد تكون مفتاحا او مدخلا لما يخالج عقل مؤلف العمل الأدبي، فاختيار الأديبة الفلسطينية نزهة ابو غوش (خريف يطاول الشمس) لروايتها يجعلنا نتوقف عند هذه العنونة، قبل دخولنا لعالم الرواية، فخريف كل سنة هو اقتراب نهايتها، وخريف العمر هو قرب نهايته، لكن حين نقرنه بمفردة يطاول، فلماذا يطاول الشمس؟ فمفردة يطاول تعنى التحدي أو التنافس، هل لأنه كان طويلا مملاً وحارقاً، والشمس خالدة حارقة ساطعة في السماء، لا تغيب عن الأرض، بل تنتقل الأرض وتتحرك، والشمس تظل متواجدة، فهل كان الخريف حارقاً يا ترى؟ أو إن ذاك الخريف كان آخر التواجد الفلسطيني الحر على ارض فلسطين؟ لكنه من المؤكد انه ليس دلالة على قرب نهاية الزمن الفلسطيني، او انه طويل وسيبقى موجودا كمثل وجود الشمس حتى وإن غابت، مثل وجود فلسطين في مكانها والشعب الفلسطيني باق كي يستعيد وجوده على ظهرها، أو ان هذا الخريف قد يظهر للبعض انه إلى غياب، لكنه يعود للبروز والتواجد كشمس كل يوم، فالشمس تختفي عن أماكن وأنظار البعض، لكن وجودها واثرها يبقى على الدنيا، ومع كل هذه الاحتمالات التي خالجت عقل كاتب هذه السطور، فإننا نجد أننا مدفوعون للغوص في محتوى الرواية.
فأول ما نلاحظه على طريقة كتابة هذه الرواية أنها تسير بخط مستقيم، وكأننا نقرأ سيرة من سير ويوميات الزير سالم او عنترة أو ألف ليلة وليلة، وفي متناول يدي الطبعة الثانية الصادرة عن المؤسسة الفلسطينية للنشر والتوزيع بمدينة رام الله في فلسطين ولم نجد دليلا على تاريخ الطبعة الأولى، ولا حتى سنة صدور الطبعة الثانية.
بعدها نجد أنفسنا اننا أمام عنصرين أساسيين ترتكز عليهما الرواية، عنص الزمن وعنصر المكان، ففي رواية نزهة ابو غوش نجد أن الزمن التاريخي يتجه إلى الأمام في سيره، حتى وإن كان يقود إلى جحيم نفسي، ليمثل خطا افقيا تنطلق منه تحركات الشخصيات في اتجاه واحد، ذلك إن الزمن منذ بداية الرواية يسير نحو مستقبل تعيس وشبه مؤكد منذ بدايات السرد، مؤكدا حتمية بؤس هو مآ ل الإنسان الفلسطيني، والزمن في رواية (خريف يطاول الشمس) هو عنصر هدام يقضى على قوى الإنسان ويثير التشاؤم في نفسه، وهناك من يرى أن الزمن له مسار تصاعدي يسير نحو التقدم والتطور، وعموما فقد غلبت النظرة المأساوية على رواية (خريف يطاول الشمس) فشاهدنا كيف دفعت الأحداث بعض شخوص الرواية الفاعلين إلى التفكك والتشتت، وأتى هذا الهدم من دواخلهم.
وأما عن المكان في رواية (الخريف يطاول الشمس) فكان هو الأبرز، لا بل هو المقصود والمرثي والمؤثر في مسار الرواية وفي نفوس شخوصها جميعهم، من أولها حتى السطر الأخير بها، فالمكان يمثل الخلفية التي تقع فيها أحداث الرواية، فإذا كان الزمان يرتبط بالإدراك النفسي، فإن المكان يرتبط بالإدراك الحسي، والتعلق بذلك المكان، ولقد حدثتنا الروائية ومطولا في بعض المواقع عن وصف المكان طبيعته ووظيفته وعلاقات الوصف بالسرد ، وتحدثت عن الأشياء في الرواية: كالأثاث والمأكل والمشرب والصور الوصفية للطبيعة ودلالاتها، وكذا انواع الأطعمة والأشربة والألبسة، فجاءت على وصف المدن والأحياء في القرية أيضا، والبيوت والغرف والأثاث. فالقرية هي الوطن الأول للإنسان الفلسطيني الريفي، وهي التي تحكم الكثير من تصرفاته وإبداعاته واتجاهاته وميوله وشخصيته. ((بلادنا فلسطين يا بنتي سبب بلائنا، لأنها بلاد ذات طبيعة خلابة، وجعرافية استراتيجية، عندك البحر المتوسط في الغرب، والأحمر في الجنوب والبحر الميت في الشرق، وبحيرة طبريا والحولة شمالا، عندك الجبال، والأنهار والسهول الخصبة، .... ولا تنسي انها مهد الديانات)) صفحة 41 ، وفي موضع آخر (كم كان هذا البيت جميلا، كم كانت هذه الساحة غنية بأشجار الليمون والبرتقال والزيتون، وأعشاب النعناع والريحان والبقدونس والخبيزة، وبرعم ما أصاب البيت من تشقق وتداع لجدرانه، وعلى الرغم من اللون الكالح والحجارة المعشوشبة، أشعر أن للبيت رائحة مميزة جذابة)) صفحة 51
ومما يثلج الصدر ان كل اديب او كاتب او رسام او فنان فلسطيني او أردني بصفة خاصة وكتاب عرب آخرون، ساهموا بشكل ما في الحفاظ على فلسطين عربية كأي قائد عسكري او سياسي مخلص، فسلاح الكاتب هي الكتابة، وأكثر الأدباء مساهمة من عايش الهموم الفلسطينية في سنوات النكبة والتهجير القسري، لتبقى كتاباتهم عنصر تذكير وشحن للأجيال التالية حتى تظل فلسطين ضالتهم المنشودة، وفي أعماق وجدانهم منذ الطفولة حتى الممات، ولهذا وجدنا كما هائلا من إبداعاتهم عبر قصصهم ورواياتهم وقصائدهم ومسرحياتهم ومقالاتهم ورسوماتهم الفنية والتشكيلية لتعريف الأجيال التالية بكل صغيرة وكبيرة عن حق الفلسطينيين في الحياة والاستقلال بحرية على ارض فلسطين من البحر إلى النهر، ورواية نزهة أبو غوش هي نبع من تلك السيول المنهمرة من الكتابات الأدبية والثقافية عن حياة الفلسطينيين قبل الشتات وأثناء رحلة الهجرة وعذاب التهجير القسري، ثم وعن ذكريات الأمس وبناء الأمل والإصرار كتابيا أو فنيا وادبيا لتغذية عقول الشباب ذكورا وإناثا، وللأجيال العربية التالية لتعريفهم بحق الفلسطينيين في استرجاع وطنهم المخطوف ، حتى يمكنهم العيش فيه بحرية وكرامة ثانية، ولذلك نرى ونسمع يوميا ونقرأ وبلا توقف عن قوافل الشهداء الذين لم يحتملوا ظلم الاحتلال، ولم يكتفوا بالعيش بلا حرية، وهؤلاء الشباب الشجعان والشهداء إناثا وذكورا ، تأثروا لاشك بمثل هذه الكتابات والدعوات والتوعية من جميع ماكتب. تقول وردة ((آه لو كان معنا القليل من السلاح فقط، مثل السلاح الذي جلبه اليهود من بلاد الغرب، والله ماكان يقدر علينا احد، نحن العرب في فلسطين شجعان، وقلوبنا قوية، ولسنا جبناء، لكن.. . . من يقف امامنا؟ قل لي؟ جدي كان يقول الكف ما بتلاطم مخرز، كنت اقول له، والله ياجدي انه راح يجي يوم الكف يلاطم هالمخرز، وينكسر، كان يضجك ويقول لي، كم أنت شقية يا وردة)) صفحة 89
فكاتبتنا نزهة ابو غوش في روايتها (خريف يطاول الشمس) تقف مع حشود الكتاب الذين يعبئون الناس ليظلوا قلقين وساهرين على حب الوطن والتعلق به، وليعيشوا على امل العودة لفلسطين، وكيف لا وهي ابنة إحدى القبائل العربية العريقة التي استوطنت فلسطين منذ قرون عدة، فمن حقها علينا أن نحاول إبراز دور قبيلة (أبو غوش) في الصمود والدفاع عن ارض فلسطين، فقبيلة (ابو غوش) من القبائل العربية التي عرف عنهم قوة العزيمة والتحرر والتمرد على الحكم العثماني، وتشهد لهم كتب التاريخ في فلسطين والأردن كيف استطاعوا الصمود في وجه التمدد الصهيوني في فلسطين، فهم الذين اوقفوا الصهاينة في وسط فلسطين عن احتواء اقدام جبال القدس المنغرسة في أطراف السهول الساحلية من الجهة الغربية، عاما بعد عام بجهودهم وبجهادهم وبصدورهم وبأسلحتهم الخفيفة والبسيطة، لكن شجاعتهم وإصرارهم على الحياة على ارضهم في قرية عمواس كانت اقوى من كل معتد اثيم، وفي كل هجوم كان أهل عمواس يردون الصهاينة على أعقابهم خاسرين، فقبيلة (ابوغوش) اتخذت عدة قرى في فلسطين مقرا لها وسكنا مثل قرى عمواس وقرية ابو غوش وقرية بيت سيرا وربما في صوبا ولفتا، لكن مدينة عمواس هي التي وقفت في وجه التمدد الصهيوني عشرين عاما، صمدوا بدون قوات برية تدعمهم، حيث ان القوات الأردنية لم يكن مسموحا لها بالتعسكر والتحصن في تلك المنطقة العميقة داخل إسرائيل حسب اتفاقيات الهدنة، فبقي حقد الصهاينة على عمواس كامنا حتى سقطت بقية فلسطين في أيديهم عام 1967، فكان انتقام الصهاينة من مدينة عمواس، من أشد الإجراءت التاريخية ندرة، إذ محوا مدينة عمواس والقريتين الأخريين المجاورتين لها عن عالم الوجود، وهما قرية يالو وقرية بيت نوبا، فازالوا كل اثر للبيوت والسكن والسكان هناك، انتقاما لصمودهم ومقاومتهم للصهاينة طوال اكثر من عشرين عاما حتى عام النكسة عام 1967 عام سرقة الضفة الغربية كلها من جسد المملكة الأردنيةالهاشمية.
يقول الراوي العليم في مطلع الرواية (ما أصعب أن تجد نفسك غريبا عن نفسك، تائها بين ثنايا الزمن تبحث عن إجابة لسؤال يؤرقك في صحوك ومنامك: لماذا؟ لماذا تركنا بلادنا؟ لماذا تركنا هواءنا؟ لماذا تركنا سماءنا، لماذا تركنا ترابنا وماءنا وشجرنا وحجارتنا وبيوتنا؟ لماذا تركنا الجنة؟ هل تواطأ القدر مع أعدائنا؟)، ثم وبرغم كل المبررات التي جاءت عبر الرواية بطولها، إلا ان الكاتبة تعطينا جوابا قاطعا وفي مطلع الرواية وبعد كل هذه الأسئلة، (لا أقبل إجابة من أي إنسان) اي لاتقبل أي إجابة تبريرية لخروج الناس مضطرين من بيوتهم، ولا حتى مع كل الصعوبات ولا كون الشعب اعزل من السلاح، ليقاوم العدو الشرس المتأهب بكل انواع الأسلحة الحديثة والتدريب والخبرات.
في الصفحة الأولى، تقول الساردة (لو عرفتم بلدتي لفتا، لما قلتم هذا الكلام، إذا قلت لكم أن بلدتنا لفتا اصيبت بالعين فصدقوني، كانت بلدتنا زعيمة القرى، وأقربها من مدينة القدس، اراضيها واسعة ممتدة حتى أسوار القدس شرقا وبين قرى عين كارم والمالحة ودير ياسين وقالونيا وبيت اكسا وشعفاط وبيت حنينا، كنا مجاورين للأحياء اليهودية في (حعفات شاؤول ومحنى يودا وروميما)، وعدا عن ذلك كان اهل بلدتنا اكرم ناس، ويحبون التعليم، تخرج من بلدتنا كثير من الأطباء والمهندسين والمعلمين....وكان أهلها أغنياء، يلبسون الحرير، وقلائد الذهب على الرؤوس، ولنا تأثير كبير على الانتخابات في مدينة القدس)، وصف يقول الكثير، كيف كان الناس يعيشون بشكل عام في بحبوحة وراحة نفسية وغنى في النفس والمال والأخلاق والثقافة. يغنيك هذا الوصف المختصر عن صفحات مطولة من التاريخ، لحياة الناس في كل فلسطين قبل نكبة عام 1948، ثم تأتي المصائب كلها دفعة واحدة، ففي الصفحة 88 ((في التاسع من نيسان وقعت القسطل بأيدي اليهود، أخذوها، يا ألله ما اصعب الاحتلال، وما أصعب الظلم، وما أصعب ان تطير منك بلدك، يسحبونها من تحت قدميك كما يسحبون البساط، كأنك لم تعش فيها يوما واحدا، وتصبح مشردا غريبا في بلاد الله)) وبعدها وفي الصفحة 91 يقول حسن: ((يا وردة لا يوجد شيء يبشر بالخير ابدا، يقول لي عقلي أن الدور آت علينا، نحن لسنا أفضل من دير ياسين ولا القسطل ولا لفتا ولا قالونيا...))، وللنزاهة فإن الراوية في رواية نزهة ابو غوش يظهر شجاعة الكثيرين من الفلسطينين، لأنهم آثروا الوقوع في أيدي الصهاينة أسرى او للقتل بدل الهجرة وترك الوطن والبيت والمكان، ففي الصفحة 108 (( ظلت العجوز أم حسن مستنكفة عن الحديث، ومغلقة اذنيها عن سماع اي كلام عن شيء اسمه الرحيل، او الهجرة، كانت في نظراتها لولدها تطلعات عنيدة، وقد ظهرت على قسماتها كبرياء أيام خلت))
يقول الشاب علي الذي ضحى بخطيبته وحبيبته خديجة التي استقرت مع والديها في الشتات في مخيم الأمعري في رام الله، لكن علياً فضل العودة لبلدته ولو بطريقة غير قانونية (ها أنت اليوم ملاحق من المجهول، تتسلل إلى مسجد قريتك، وكأنك تحاول ان تنتشل شيئا لم يقدر على انتشاله احد، كم هي صعبة الأيام التي تمر من أعمارنا، كل الذي مرّ من حياتي السابقة لا يضاهي الذي اواجهه اليوم، لكني لن أيأس، لن أستسلم، لن ارفع رايتي، سأظل هنا فوق أرضي، ازرعها، أفلحها، أشتم رائحتها، أتنفس هواءها حتى يضعوني في هذا الصندوق الخشبي محملا على الأكتاف، كي يواروا جسدي تحت تراب وطني)) ص 233، فرواية خريف يطاول الشمس، هي تطبيق للواقعية أو انها تأريخ ما يهمله التاريخ، بناء على الذكريات التي مازالت حية في عقول الكثيرين ممن عاصروا شهور النكبة القصيرة جدا في المنظور التاريخي، وشكرا لنزهة ابو غوش على جهودها الخيرة، ونأمل ان يتلو هذه الرواية جزء آخر، أو اجزاء اخرى تلاحق الناس في خيامهم والمغاور وتيه الشتات في البراري وليالي العتمة والبرد في العراء حين هامت مئات الآلاف من المهجرين على وجوههم لا يدرون أين يحطون مقامهم ليأمنوا على حياتهم وحياة أطفالهم واسرهم، ثم . . . . وماذا بعد؟؟