رواية "أميرة"ومعاناة شعب
عبد الله دعيس:
ما زالت النكبة الفلسطينية هي الحدث الأبرز الذي يفجّر قريحة الكتاب العرب، فتجود أنفسهم بأفضل ما لديهم عندما يستذكرون هذه الحادثة الفريدة في تاريخ البشرية. فأن يُقتلع شعب من أرضه ليحلّ محلّه لمم من هنا وهناك، ويصبحون شعبا جديدا في أرض تلفظهم، لهو حدث جلل، لن تنضب الكلمات التي تصفه وتتحدث عنه. فالمأساة التي حلّت بالشعب الفلسطيني هزت وجدان كلّ من حمل قلما، وأشعلت فيه عواطف جامحة جعلت قلمه يخط بعضا مما حدث.
ومع اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه، تغيرت معالم الجغرافيا، فأزيلت قرى ومدن كانت عامرة بأهلها. وفي كل قرية عاش أناس؛ أناس عاديون، كانت لهم حياتهم وثقافتهم، وكانت لهم حسناتهم وسيئاتهم، كان لهم أحلام وآمال، كانوا بشرا، مثل أي بشر. لكنهم خُلعوا من جذورهم، وتبددت أحلامهم وتلاشت آمالهم. ومع كل إنسان منهم كانت هناك حكاية ورواية، وكان ألم وكانت حسرة، فأنّى للكتّاب أن يجمعوا كل هذه الحكايات ويودعوها متون الكتب! وأنّى لهم أن يصوّروا لنا كلّ قرية وكلّ مدينة، كل شارع وكلّ بيت وكلّ شجرة، وكلّ عائلة وكلّ فرد. فرحمُ النكبة ما زال يلد حكايات تُسَطَّر على الورق، فيندى لها جبين الإنسانية التي نصرت الظالم على المظلوم، وتُؤرق بقايا ضمائر في أولئك الذين تخاذلوا ولم ينصروا هذه القضية العادلة، بل تآمروا عليها وظاهروا عدوّها.
يحذو الكاتب جميل السلحوت حذو العديد من الكتاب الفلسطينيين والعرب، فيتناول نكبة فلسطين عام 1948، فيحكي لنا قصّة المكان وقصّة الإنسان، ويرسم ملامح فلسطين بأرضها وناسها قبل النكبة ثم الملامح الجديدة التي طرأت عليها بعد النكبة، فرواية أميرة هي حكاية الإنسان الفلسطيني العادي قبل وبعد نكبة فلسطين.
يخصص الكاتب ثلثي روايته تقريبا للحديث عن الحياة الاجتماعية في قرية بيت دجن وفي يافا والقدس قبل عام 1948، فيصف جميع جوانب حياة القرية، عاداتها وتقاليدها وعلاقاتها الاجتماعية، حياة الأغنياء وكذلك الفقراء والعلاقات المتبادلة بينهم، لحظات القوّة ولحظات الضعف. يصف مجتمعا متكاملا له جذور ضاربة في عمق التاريخ، وعلاقات بين جميع أبنائه: القرويّ والمدنيّ والمسلم والنصرانيّ، وحتى أولئك اليهود الذين سكنوا فلسطين قبل هجرة الصهاينة إليها. هذا النسيج الاجتماعي الفريد بحسناته وسيئاته، كان نسيجا متماسكا، يمثل صورة مجتمع متجذّر في هذه الأرض وليس طارئا عليها؛ فالحياة لها معنى والمجتمع له تفرده وشخصيته المميزة.
اعتمد الكاتب على الإسهاب في وصف هذا المجتمع الذي انهار فجأة، في غفلة عن ضمير الإنسانية وبتواطؤ منها، ليبين حجم الجريمة التي وقعت على الشعب الفلسطيني، فكان لهذا الاسهاب أثر أكبر بكثير من مجرد وصف لفظائع الحرب والتي قد تحدث في أي مكان في العالم.
يمرّ الكاتب بعد ذلك بعجالة على أحداث النكبة، ويعود ليصف الحياة الاجتماعية للأسر الفلسطينية التي تتشتت في أصقاع الأرض، ويترك هذه الأحداث، وهذا الشتات ليحكي آثار النكبة، فيتجلّى عِظَم الجريمة التي اقتُرِفت بحق هذا الشعب.
وإضافة إلى رسم صورة الإنسان الفلسطيني، يرسم الكاتب صورة الأرض الفلسطينية. يجعل القارئ يعيش في بيت دجنّ ويرى بياراتها وقصورها وبيوتها، ثم يعرّج على يافا ويرى شوارعها وأسواقها وبحرها، وينتقل إلى القدس يلج أسواقها العتيقةّ ويصل مسجدها الأقصى يصلي فيه، ويعود ليقضي ليله في بيت دجن. تكامل جغرافي فريد يماثل التكامل الاجتماعي. فهذا شعب له أرض، وهذا الشعب وهذه الأرض ممتزجان كالروح والجسد. ثم ينتزع الشعب من هذه الأرض تماما كما تنتزع الروح من الجسد.
في روايته، يشير الكاتب إلى كثير من الأحداث السياسية خلال الفترة السابقة واللاحقة لحرب 1948. فهو يشير إلى الدعم البريطاني للعصابات الصهيونية قبل الحرب وأثنائها ودورهم في تسريب أملاك الفلسطينيين لليهود؛ حتى يتسنى لهم إقامة كيانهم على أرض فلسطين. وكذلك يشير إلى الزعامات العربية والفلسطينية التي تحالفت مع الإنجليز وخذلت الشعب الفلسطيني، وأدّى تخاذلها إلى ضياع فلسطين. وبالمقابل يُبرز الكاتب دور القيادات الفلسطينية والمجاهدين الفلسطينيين والعرب الذين بذلوا كل ما بوسعهم؛ ليدافعوا عن بلادهم، لكن حجم المؤامرة كانت أكبر منهم، فلم يستطيعوا مواجهتها وإن كانوا أدركوها ووعوا أبعادها. وكذلك يتحدث الكاتب عن السجون في عهد الانتداب البريطاني وطبيعة حياة المناضلين الفلسطينيين داخلها. ويعرّج على الأخطاء التي كانت تقع فيها الثورة الفلسطينية، مثل إعدام أشخاص متهمين بالعمالة بمجرد الاشتباه أو الوشاية الكاذبة. وكذلك يشير إلى المواقف السياسية المختلفة للشعب الفلسطيني في تلك الحقبة، مثل موقفهم من الثورة وموقفهم من قرار التقسيم.
يُبرز الكاتب دور المرأة ومكانتها في المجتمع الفلسطيني قبل وأثناء أحداث النكبة الفلسطينية. فالمجتمع الفلسطيني مجتمع ذكوريّ يمجّد الذكر ويعطيه الأفضلية، لكن المرأة ليست مضطهدة وليست غائبة عن الساحة. تبدأ الرواية بالاحتفال بمولد أميرة التي يبتهج الجميع بقدومها ويحتفون بها. ثم تقوم النساء بدور كبير في الثورة الفلسطينية، فنساء القرية يخرجن ويعاينّ أجساد أزواجهن وأبنائهن الشهداء في ساحة القرية، ويكتمن لوعتهن وحزنهن، ويكتمن معرفتهن للشهداء حتى لا ينكل الإنجليز بالقرية وأهلها؛ هذه شجاعة منقطعة النظير. ثم يكون للنّساء دور فعليّ في الثورة، فيشير الكاتب إلى دور جمعية "زهرة الأقحوان" ومهيبة خورشيد في التصدي للصهاينة.
يعود الكاتب في نهاية الرواية إلى سرد للحياة الاجتماعية للعائلات التي تشتت في أماكن عدة، فعائلة عباس طاهر المحمود تتوزع بين القدس ومخيم الوحدات في عمان، ومخيم جباليا في غزة ومخيم شاتيلا في لبنان. لكن نسق الحياة يستمر وتستمر العائلات في تفاعلها وبناء حياة جديدة بعيدا عن الوطن، فالشعب الفلسطيني لن يموت ولو طال إقصاؤه عن أرضه.
الرواية واقعية في شخصياتها وأحداثها، فالمشهد الفلسطيني يزخر بالأحداث الحقيقية التي يمكن للكاتب أن يصيغها بطريقة فنية أدبية، فلا مكان للرمزية هنا في هذا الواقع الذي يفوق الخيال. لغة الرواية سهلة سلسة تقترب من اللغة المحكية، لكنها تحتفظ بسماتها الفصيحة. في الرواية عدد كبير من الأمثال الشعبية والأغاني والأهازيج التي كانت دارجة في تلك الحقبة من الزمن. إن الحفاظ على هذه الثقافة الأصيلة هو حفظ للهوية والأرض، وهذه ميزة تحسب للكاتب.
تبدأ الرواية بولادة أميرة وتنتهي الرواية بعودة أميرة إلى حضن والديها. فهل يعود الشعب الفلسطيني إلى أرضه كما عادت أميرة؟ ينهض التاريخ هنا ليجيب: نعم.