الأحد 24-11-2024

المسألةُ اليهوديّةُ بين الفكرةِ الدينيّةِ والقوميّة

×

رسالة الخطأ

حاتم استانبولي

المسألةُ اليهوديّةُ بين الفكرةِ الدينيّةِ والقوميّة
حاتم استانبولي
الخميس 26 يناير 2023 | 08:13 ص
الفكرةُ هي العاملُ المتغيّرُ والإنسانُ هو العاملُ الثابتُ في إطار العلاقة بين الفكرة والإنسان، لذلك حدث عبرَ التاريخ الإنسانيّ انتهاءُ أفكار وعقائد وظهور أفكار وعقائد جديدة للمجموعات البشريّة التي عاشت في ذات المكان عبرَ الزمان.
القوميّة مفهومًا تحملُ في إطارها إمكانيّةَ تعدّدِ الأديان، ولكن لا يمكن للدين وحده أن يكون شرطًا للمفهوم القوميّ، مفهومًا عصريًّا تحوّلت من شعورٍ إلى واقع، نتيجةً لمتطلبات تصاعد التنافس الرأسمالي بين البرجوازيات الأوروبيّة في مرحلةِ انتقال أوروبا من المرحلة الإقطاعيّة إلى المرحلة الرأسماليّة التي فرضت ضرورة ظهور الدولة القوميّة للحفاظ على المصالح البرجوازيّات الوطنيّة التي تطلّبت تحديد إطارٍ قانونيٍّ (الدولة) للتبادل السلعي في حدود ارتفاع وتيرة الإنتاج الصناعي ما بعد الثورة الصناعية. لقد فرض التطوّر الرأسماليّ متطلبات اجتماعيّة تخفّف من التوتّرات الداخليّة في إطار المفهوم الجديد للدولة القومية التي تعتمدُ على أساس المواطنة التي فرضت واقعًا جديدًا تُوَظَف فيه الهُويّة الدينيّة لصالح الهُويّة القوميّة.
في منطقتنا العربيّة الشعور القومي تحوّل إلى واقعٍ ملموسٍ من خلال الهُويّة الدينيّة التي فرضت اللغة العربية والشرائع الدينية الإسلامية على الفئات الاجتماعية المختلفة، وكان هناك علاقةٌ متبادلةٌ ما بين الشعور القومي العربي والدين الإسلامي. فالآية الثانية في سورة يوسف التي ورد فيها (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون)، أعطت اللغة العربية وحامليها وحاضنها قوة إلهية جعلتها اللغة السائدة في حدود الدولة الإسلامية المترامية الأطراف وأعطت قوة لمراكزها ما بين المدينة المنورة ودمشق وبغداد.
عندما انتقلت الخلافةُ إلى القسطنطينية ظهر التعارض ما بين الشعور (القبلي) القومي العربي وشكل الحكم الإسلامي، عبر الزمان فقد المسلمون العرب تدريجيًّا مركز قوتهم في نواة الخلافة الحاكمة، مما وسع التعارض ما بين الشعور (القبلي) القومي والديني ليتحوّلَ إلى صراعٍ أدّى إلى تقويض أُسس الخلافة الإسلاميّة. إن الشعور القومي (القبلي) العربي، ارتفعت وتيرته طردًا مع التوسّع الإسلامي الذي فرض لغة القرآن لغةً رسميّةً سائدة، غيّبت العديد من اللغات والثقافات في مناطق نفوذها واقتصر التصنيف بين الفئات الاجتماعية على أساس الدين خُيِّرَ أهل الكتاب من يهودٍ ونصارى فمنهم من أسلم ومنهم من بقي على دينه.
القبائلُ اليهوديّةُ التي كانت منتشرةً في اليمن والجزيرة العربية هي قبائلُ عربيّة، كانت عقيدتها اليهودية، والقبائل المسيحية، كانت قبائل عربية، عقيدتها المسيحية، وجاء الإسلام وتبنت بعض القبائل العربية الديانة الإسلامية، فمنها من كان يهوديًّا أو مسيحيًّا وتحوّل إلى الإسلام ومنها من بقي على دينه. والإسلام دينًا طرح منظومةً من القيم والأعراف السياسية والاجتماعية، حاكت المشكلات القائمة وكانت أرضيّةً لبناء قيمٍ عامةٍ ناظمها أسس الدين الإسلامي الذي أذاب الفروقات العرقية في المفهوم الشامل للدين الإسلامي. والإسلامُ عقيدةً كان مؤهّلًا أن ينتج نظامًا سياسيًّا حاضنته القبائل العربية، وصارع الإمبراطوريات المحيطة في أوطان القبائل العربية التي كانت تتحرك ما بين اليمن، مرورًا بالجزيرة العربية إلى بلاد الشام، وانتشرت بعد الفتح الإسلامي إلى شمال إفريقيا التي كان يسكنُ معظمها القبائل الأمازيغيّة البربريّة التي تبنت العقيدة الإسلاميّة واندمجتْ في ثقافتها تأثرت وأثرت بها.
مارست القبائل العربيّة اليهوديّة، دورًا وظيفيًّا للقبائل مركبًا متعدّدَ الأوجه، تبعًا لعناصر القوة والضعف، فهي لم تدخلْ في صراعٍ مع الإسلام، بل رضخت وتعاونت معه في مراحل ذروته وعملت على تقويضه في مراحل تراجعه.
ما قبل أن تصبح الفكرة القوميّة ضرورةً رأسماليّةً لرسم حدود إطار السوق الرأسمالية الوطنية كانت الفكرة الدينية هي التي تحدّدُ الفواصل ما بين المجموعات العرقية التي كان الدين يجمعها في حدود النفوذ السياسي في الممالك والإمبراطوريات في ظلّ سيادة العلاقات الإقطاعيّة، كان للكنيسة دورٌ رئيسٌ في الحياة السياسية للمجتمعات.
القبائلُ اليهوديّةُ بحكم وظيفتها السوقية الرئيسية التي كانت تستفيدُ من البنية الهشة للمجتمعات التي كانت تسمحُ لها في ممارسة دور المموّل، من خلال عمليّةٍ ربويّة، جعلتهم بنظر المجتمعات الأوروبية مسؤولين عن فقرهم ومصادرة أملاكهم، ولحماية وظيفتها كانت دائما تميل هذه القبائل إلى التحالف مع النظم السياسية الحاكمة وتستمد منهم الحماية من خلال تشريعات (مواثيق هنري الرابع لحماية المكتسبات اليهودية في الإمبراطورية الكارولنجية عام ١٠٩٠)، تحفظ وتحمي دورهم الوظيفي. أما فردريك الأول أصدر ميثاقًا عام ١١٥٧ استخدم فيه مصطلح أقنان البلاط وصفًا للجماعات اليهودية ليعطيهم حماية السلطة الملكية.
كان إعلانُ قانون نابليون بونابارت المدني (1804) حدثًا تاريخيًّا مفصليًّا، هذا القانون الذي حدد الإطار القانوني للدولة الفرنسية واعتبر المواطنة هي أساس الهُويّة الوطنيّة بغض النظر عن الهُويّة الدينيّة، حيث اختارت معظم القبائل اليهودية المواطنة والاندماج في المجتمعات الأوروبيّة.
بعد الحروب القومية الأوروبية رُسِمَت الحدود القومية للدول (البرجوازية) القومية الحديثة التي حاصرت الفكرة الدينية في إطار دورها الوظيفي الأخلاقي، بدون أي دور سياسي في الدولة القومية الحديثة، وتم التوافق مع البابوية على إقامة دولة الفاتيكان. واندمجت القبائل اليهودية في المجتمعات المدنية الأوروبية وطورت من منظومتها المالية وقوننة العملية الرَبَوية، في إطار النظام المالي البنكي الجديد في النمسا، حيث في عهد فردريك الثاني عام ١٢٤٤، أقر النظام الضريبي الذي يوضح بأن الفوائد على القروض تمنح بضمان الرُهونات التي تمنح المرابي الاستيلاء على الممتلكات المرهونة في حال لم يتمكّن المدين من تسديد دينه. دور المرابي الذي لعبه اليهود بحماية السلطة الحاكمة، كان سببًا رئيسيًّا لظهور تهمة الدم في إشارة امتصاص دم الشعب.
اليهود عبر التاريخ بكل طوائفهم الشرقية والغربية، كانوا مندمجين في المجتمعات التي كانت تحتضنهم، وكانوا دائمًا يجدون رعايةً خاصةً من الحكام والملوك والإمبراطوريات كما احتُضِنوا ومارسوا حقوقهم في ظل الحكم الإسلامي ولقوا من ساعدهم (يهود السفارديم)، وأرسل لهم الأسطول العثماني البحري لنقلهم من إسبانيا إلى الدولة أراضي العثمانية عام ١٤٩٢، عندما تم نفيهم من الأندلس بعد انتهاء الحكم الإسلامي في الأندلس بتهمة مساعدة المسلمين.
كلُّ الوقائع التاريخيّة تؤكّدُ أن اليهود لم يكونوا يعانون من اضطهاد، بسبب كونهم يهودًا، إنما كان اليهود الفقراء والعامة يعانون من دور أغنيائهم (المرابون) الذين كانوا دائمًا يتحالفون مع النظم الحاكمة ضد شعوبهم.
في مرحلة انتقال الرأسمالية إلى مرحلتها الإمبريالية، ظهرت ضرورةٌ للاستيلاء على مصادر الطاقة التي كانت بوادرها قد ظهرت في العراق والجزيرة العربية، مما يتطلّبُ عقد مؤتمر دعا له رئيس وزراء بريطانيا عام ١٩٠٧ Henry campbell- Bannerman التوصية التي خرجت من المؤتمر: أن شعوب جنوب البحر المتوسط تشكّل خطرًا مستقبليًّا على الغرب، كانت أرضيّةً لتلاقي المصالح الرأسمالية والطموح الرأسمالي الصهيوني الذي عرض توظيف الفكرة الدينية اليهودية لِلمصلحة المشتركة لِرأس المال اليهودي ورأس المال الغربي، لإنشاء وطنٍ قوميٍّ لليهود في فلسطين، يؤدي دورًا وظيفيًّا في إشغال شعوب المنطقة، بصراعاتٍ ذات أبعادٍ دينيّة، ويصبح فيه دور الاستعمار الخارجي حكمًا ما بين القوى المتصارعة.
الاضطهادُ الذي وقع بحقهم في أوروبا، خاصةً بعد الكساد الكبير في العالم الغربي الرأسمالي الذي أدّى للحرب العالمية الثانية ونتائجها التي أفضت إلى تنفيذ وعد بلفور بالمعنى القانوني، عبر قرار التقسيم؛ أشعل صراعًا جديدًا في المنطقة، أخذ أبعادًا دينيّة، مغلّفًا بالشعور القومي العربي الذي حرك القبائل العربية لمساعدة الغرب لإسقاط الحكم العثماني. الاستعمار الذي خذل الشريف حسين وألغوا وعدوهم بإقامة دولة خلافة إسلامية عربية على أنقاض انهيار الدولة العثمانية.
لم يعانِ اليهود باختلاف انتماءاتهم القومية من أي مشكلة في التاريخ، خاصة في المنطقة العربية، حيث كانوا مندمجين في المجتمعات المحلية ويمارسون حقوقهم الدينية والمدنية. لهذا فإن أي طرح لحل مسألتهم، يجب توضيح ماهية مسألتهم أهي دينية أم سياسية أم اقتصادية وفي الثلاث عناوين هم يحظون بحماية قانونية محلية وإقليمية ودولية.
إنّ المفهوم القومي العربي حتى الآن هو شعورٌ عامٌّ لم يتحوّلْ إلى ضرورةٍ رأسماليّةٍ عربيّة، تؤدي فيه البرجوازيات الوطنيّة، دورًا فاعلًا في تحقيقه، لكون أكثريتها برجوازيات كمبرادورية تابعة لمركز رأس المال الغربي. والوضع الاقتصادي العالمي أصبح متداخل المصالح، ولا يمكن فصلها ميكانيكيًّا، حيث أصبحت معقّدةً ومتداخلةَ التركيب، تؤدي فيها التكنولوجيا دورًا رئيسيًّا في علاقاته المركبة.
إنّ الحديث عن القومية يجب أن يقترن بالحديث عن مفاهيم الحرية والعدالة والمشاركة التي يجب أن تعكس ميزان القوة الاجتماعي في البناء الفوقي للدولة القومية المنشودة.
وفي هذا الصدد، فإنّ مفاهيم الحرية والعدالة والمشاركة للقوى الاجتماعية، بحيث تضمن توازنها وتضامنها وتماسكها هي التي يجب أن تولي أهمية قصوى، خاصة بعد التجارب التي مرت بها المنطقة، إن كانت قوميّةً بوجهيها القبلي والعقائدي أو تجارب قطر ية طرحت أولوية الدولة القطرية.
إنّ أية رؤيةٍ مستقبليّةٍ لتحقيق مفهوم القوميّة العربيّة بالضرورة، يجب أن يكون ناظمه الحرية التي معيارها العدالة الإنسانية في جوانبها القانونية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ومصداقية ترجمة جوانبها من خلال قوننة تأمين المشاركة من قبل كافة القوى الاجتماعية، بما يعكس ميزان قواها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. إذا استند تطبيق المفهوم القومي العربي على هذه الثلاثية، فلا مكان لأية مسائل لحلها؛ لأنها ستؤمن مساحاتٍ لممارسة كافة الحقوق الدينية والاقتصادية والاجتماعيّة والسياسيّة والقوميّة.
ما نعاني منه في حل المسألة الفلسطينية واليهودية هي الخلطُ بين العدالة الإلهية والعدالة الإنسانية، في حين تسعى القوى الاستعمارية من ضمنها الرأسمال اليهودي لتوظيف مفهوم العدالة الإلهية لتحقيق مكاسبَ سياسيّةٍ لتبرير الاعتداء على الشعب الفلسطيني وحقوقه في تصادم مع العدالة الإنسانية التي تشرع حماية الشعب الفلسطيني وحقوقه السياسية والتاريخية والحقوقية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية، وهذا التصادمُ يطرحُ تساؤلاتٍ حولَ أولوية العدالة وأدوات تنفيذها؟
كل الديانات تتفق على أن تحقيق العدالة الإلهية لن يكون إلا بأدواتٍ إلهيّةٍ ولا يمكنُ للإنسان بغض النظر عن موقعه أن يمارس تنفيذ الحق الإلهي. لذلك فإن كل ما يمارسُ من قبل كافة القوة أو الحكام أو الأفراد باسم العدالة الإلهية هو غير صحيح وغير مبرر دينيا، بل هو يستخدم لتبرير القتل والاعتداء والسرقة باسم الحق والعدالة الإلهية التي يستخدمونها للهروب من المحاسبة القانونية على جرائمهم.
وفي هذا الصدد، فإن استخدام المقولات الدينية التوراتية لتبرير مصادرة الأرض والحق الفلسطيني تدخل في هذا السياق، فالعدالة الإنسانية التي ناظِمها الحرية ومعيار مصداقيتها المشاركة هي القيم والمفاهيم التي يجب أن تُقيّم على أساسها أية مسألةٍ أن كانت دينيّةً أو سياسيّةً أو حقوقيّةً أو اقتصاديّة.
وللإجابة عن حلّ المسألة اليهوديّة لا يوجد مسألةٌ يهوديّةٌ يراد حلّها فهي أصلًا محلولة، لكون جوهرها دينيًّا وهم يمارسون حقوقهم الدينية وهم يتمتعون بالحماية بكل بقاع الأرض وهم خارج منظومة المحاسبة القانونية الانسانية.
المسألةُ التي يرادُ حلُّها هي المسألةُ الفلسطينيّةُ التي يعاني شعبُها منذ ٧٥ عامًا.

انشر المقال على: