باحث فلسطيني يؤكد أن عملية القدس هي اللغة الوحيدة المؤثّرة
قال الباحث الفلسطيني المتخصص في الشأن المقدسي زياد ابحيص انه "في الصباح التالي لعملية القدس البطولية التي نفذها الشهيد فادي قنبر بأداة مدنيةٍ بسيطة، جاءت افتتاحية جريدة "يديعوت أحرونوت" الصهيونية لتدعو الدولة من جديد إلى إخراج الأحياء العربية الـ22 في شرق القدس من حدود المدينة، وإلى بناء جدارٍ أو جدرٍ حولها على غرار ما تمّ في الضفة الغربية. وأضاف، في تصريح عممته مؤسسة القدس الدولية اليوم الجمعة: أن هذا الطرح كان ظهر مطلع عام 2016 بعد انطلاق انتفاضة القدس وتجدّد اليوم، ويؤكد من جديد بأن الوسيلة الوحيدة لإقناع القوة المحتلة بترك الجغرافيا التي تحتلها هو تكبيدها خسائر بشرية واقتصادية تفوق احتمالها باستخدام القوة. صحيح أن المحتل لا يطرح هنا فكرة الهروب تاركاً كل شيء، لأن مقدار القوة المستخدم ضده لا يكفي لدفعه إلى ذلك، لكن مجرّد تفكيره في ترك الجغرافيا التي أعلن مراراً وتكراراً أنها "عاصمته الأبدية الموحدة" يعني أن مقدار القوة البسيط الممارس ضده قد تمكّن من هزّه اهتزازاً عنيفاً".
وتابع الباحث ابحيص قائلاً: لقد كان إعلان ضم مدينة القدس وتوسيع حدودها بـ70 كيلومترٍ مربع تجاه الشرق نتيجة مباشرةً للنصر الصهيوني المؤزّر عام 1967، وكان اجتزاء تلك المساحة الكبيرة من الأرض تجلياً لشعور العظمة والثقة التي بدأت تنغرس في نفوس القادة الصهاينة، ومقولة جيشهم الذي لا يُقهر، فكان من أعلن الضم يعتقد بقدرة المشروع الاستعماري الصهيوني على ابتلاع الأحياء والبلدات والقرى العربية في شرق القدس بسهولة، وبأن قوى الدفع العسكرية والديمغرافية والاقتصادية الصهيونية لن تقف أمامها 22 بلدة وقرية عربية بسكانها الذين لم يزد عددهم عن 69,000 فلسطيني. مرّ على ذلك التاريخ ما يقارب 50 عاماً، والسبعون ألفاً أصبحوا أكثر من 300,000، ورغم نجاح المشروع الصهيوني بوضع اليد على قطاعٍ كبيرٍ من الجغرافيا وإسكان نحو 200,000 من المستوطنين اليهود إلى جوارهم، إلا أنه فشل في اقتلاع هؤلاء أو طردهم، أو حتى ابتلاعهم ضمن منظومته المجتمعية كما حصل في أماكن أخرى.
وقال: اليوم يخرج نحو نصف منفذي العمليات في انتفاضة القدس من هذه الأحياء والبلدات، ليفرضوا على وعي المستعمِر الحقيقة التي كان يظن أن بإمكانه مغالبتها، فهو لم يتمكن من ابتلاع تلك الجغرافيا وأهلها كما كان يخطط، وجرعات العنف المميت القادمة منها تدفعه للتفكير في التراجع عن احتلالها رغم محدودية تلك الجرعات ونُدرتها".
واستطرد الباحث الفلسطيني: تتكرّر الدروس والاستنتاجات في الوقائع التاريخية بشكلٍ يجعلها حقائق مثبتة، ويجعل الحاجة إلى إعادة استنتاجها منفيةً وزائدةً عن الحاجة، إلا أن التجربة البشرية تٌثبت في الوقت عينه حاجة الجماعات الإنسانية إلى إعادة استنتاج هذه الحقائق في تجربتها التاريخية الخاصة. الحقيقة المثبتة أن القوة المستعمِرة لا تفهم إلا لغة القوة، وأنها لا يمكن أن تترك مستعمراتها إلا إن فقدت القوة الكافية للاحتفاظ بها وإخضاعها، سواء بسبب ثورة أهلها وأصحابها، وبسبب حروبٍ وتغييراتٍ في البيئة الدولية تفقد القوى الاستعمارية فائض القوة الذي يسمح لها بفرض حكمها على أقاليم وشعوبٍ أخرى.
وأضاف: في حالة المشروع الصهيوني لم يختلف الاستنتاج: فالانسحاب من سيناء جاء عقب حرب 1973 التي هزّت ميزان القوى الهش الذي فرضته حرب 1967، والانسحاب من مراكز المدن الفلسطينية في 1993 وما بعدها لم يكن إلا بسبب الثمن الباهظ الذي دفعه المحتلّ في الانتفاضة الأولى لاحتلال تلك المدن، والانسحاب من جنوب لبنان عام 2000 لم يكن إلا بسبب ما كبّدته إياه المقاومة اللبنانية من خسائر متتالية مع عجزه عن اجتثاثها، والانسحاب الأحادي من غزة وإعادة مراكز المدن الفلسطينية إلى سلطة الحكم الذاتي لم يكن إلا بعد انتفاضة الأقصى 2000 التي كانت أعنف جولة مقاومةٍ على أرض فلسطين منذ نهاية الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1939.
وتابع قائلا: في كل الحالات كان الانسحاب بعد سجالٍ عنيف يخلّ بتفوّق المحتل، والفارق الوحيد بين تلك الحالات كان في طريقة الإخراج: هل تمكن الصهاينة من الخروج بتسوية تضمن لهم شروطاً مواتية وتسوية من موقع المنتصر، أم اضطروا للخروج دون تسوية أو ضمانات. رغم أن النخبة المصرية والفلسطينية الحاكمة صدّرت مقولاتٍ بأنها أتت بتلك المكتسبات عبر المفاوضات، إلا أن الحقيقة الموضوعية هي أن تلك التراجعات الصهيونية كانت حاصلة حتماً بحكم ميزان القوى، ومساهمة النخبة السياسية اقتصرت على تسريعها قليلاً بتوفير مخرجٍ مشرفٍ للانسحاب الصهيوني، أو بضمان الهدوء فيها مقابل ضمان المصالح الصهيونية بإشراف تلك النخبة، ولو أن المفاوضات استمرت لعشرات السنين دون استخدام القوة فإنها لن تجبر المحتل على التفكير بالانسحاب من سنتمترٍ واحد، وتجربة السلطة الفلسطينية في أنابوليس 2007 ماثلة للعيان وعمرها الآن عشر سنوات، تمكنت خلالها من استعادة صفرٍ من الجغرافيا الفلسطينية، بل استخدمها المحتل ليتغلغل أكثر في تلك الجغرافيا حين أمِن وجود قوةٍ تقابله.
وأردف ابحيص قائلاً: صحيحٌ أن انسحاب المحتل من جنوب لبنان ومن غزة وحتى من المراكز المدنية في الضفة الغربية تبعته جولات مواجهةٍ جديدة، وذلك عائدٌ ببساطة إلى أن مقدار الاختلال في ميزان القوى لم يكن يسمح بهزيمةٍ مطلقةٍ له، وفي غياب نخبةٍ سياسية تحقق له الضمانات عبر انسحابٍ متفقٍ على شروطه في لبنان وغزة، كان المحتل الصهيوني يحاول تعريف شروط انسحابه من تلك البقع الجغرافية باستخدام القوة دون استمرار الاحتلال، ولم يتمكن من الوصول إلى ما يريد، فالقوة المسلحة المقابلة واحتمال انفجارها في وجهه ما زال قائماً على الجبهتين.
واختتم الباحث الفلسطيني بيانه بالقول: انه وباختصار، إذا كانت عملية دهسٍ كبّدت المحتل 5 جنود قتلى كفيلةٌ بدفع توجهٍ صهيوني للانسحاب من أحياء القدس العربية؛ تُرى لو أن حالة انتفاضة شعبية واسعةٍ قامت اليوم على غرار انتفاضة الأقصى فما هي مساحة الجغرافيا التي ستتمكن من استعادتها دون قيدٍ أو شرط؟ تُرى أي فرصةٍ ذهبيةٍ تفوتنا الآن حين لا تصل هذه الانتفاضة الحالية إلى ذروة فعلها، وحين يبقى قطاعٌ واسع من المجتمع والفصائل معزولاً عنها وعازفاً عن المشاركة فيها؟ أي خسارةٍ كبرى تكبدنا إياها نخبة أوسلو السياسية إذ تلتصق بمصالحها ومكاسبها ورفاهها وتنشر وعياً زائفاً بأن نهجها هو ما يستعيد الجغرافيا؟