قراءة في رواية عذارى في وجه العاصفة
محمد موسى عويسات:
"عذارى في وجه العاصفة" هي الرّواية التاسعة للرّوائيّ المقدسيّ جميل السلحوت (غير رواياته لليافعين)، صدرت مطلع هذا العام 2017 عن مكتبة كلّ شيء في طبعتها الأولى، تقع الرّواية في مائتين وأربعة وثلاثين صفحة من القطع المتوسطة .
والرواية، عنوانها ينبئ بمضمونها، فهي تصوّر حياة المرأة الفلسطينيّة الاجتماعيّة قبيل نكبة عام 1948، وفي أثناء النّكبة وبعدها بعقد ونصف، أي حتّى عام 1964، فهذه تقريبا حدودها الزّمانيّة، أمّا المكان فهو فلسطين قبل النّكبة وبعدها، ومهاجر الفلسطينيين في سوريا ولبنان والأردنّ، الرّواية كانت عشرين مشهدا، مترابطة تجمعها في الغالب العلاقات الاجتماعيّة بين أشخاصها الرّئيسة والثّانويّة، أو رابط الهجرة والشّتات، والشّخصيّة الرّئيسة في الرّواية هي البنت رحاب من الرّملة ابنة أحد الصّيّادين، يخطبها صاحبُه لابنه طارق، وهو ابن لامرأة عرف فيما بعد أنّها سيئة السّلوك والسّمعة، فلم تلبث رحاب مع طارق إلا قليلا، فيطلّقها حاملا، وبعد وضعها لابنها عليّ يُنتزع منها بعد أشهر، ليربّى في بيت أبيه عند زوجة أبيه، وجدّه أبو طارق، وجدّته، أمّا رحاب فيتزوّجها شابّ من قرية حطين، وتقع النّكبة، فيشرّد أهل فلسطين، فكانت وجهة عائلة طارق ووالديه وزوجته وابنه عليّ رام الله، في مخيمي الأمعري والجلزون، أمّا رحاب وزوجها خالد فكانت سوريا مهجرهم، حيث انتهى بهم المطاف في قرية (جرمانا) في بيت السّيّد كمال أبو فاطمة، وهناك تضع في أثناء النّكبة مولودها من خالد وتسمّيه كمالا، وينضمّ إليهم في بيت كمال (أبو فاطمة) فليحة وأبناؤها زوجة أحد المهجرين، الذي لم يحتمل صدمة الهجرة فأقدم على الانتحار، فعاش خالد وزوجته رحاب حياة كريمة في بيت هذا الرّجل الكريم، الذي وهبهما بيته ومزرعته قبل أن يتوفى، ويمنح أيضا فليحة وأولادها بيتا ومزرعة، ويكبر كمال، ويمتهن ميكانيكا السّيّارت، وينشئ كراجا في تلك القرية، أمّا عليّ بن رحاب الذي لم يغب عن بالها، وبقيت تتأسّى على فراقه، فبعد أن حلّوا في مخيم الأمعري، يهرب به جدّه، من ظلم زوجة أبيه، ومن بغض الجدّ لزوجته أمّ طارق، إلى بيت عمّته لمياء التي تسكن مخيّم الجلزون؛ ليكبر في بيت عمّته، ولمّا مات جدّه وجد نفسه وحيدا، وعرف اسم أمّه وزوجها، فيهرب من البيت، ويعثر عليه في الطريق إلى أريحا سائق شاحنة ليلقيه عند صاحب كراج في عمّان، فيعمل شهرا، فيحاول صاحب الكراج أن يستغلّه، ولكنّه وجد رجلا طيّبا من عمّال الكراج ينتصر له، فيترك العمل ليشاركه في كراج جديد على طريق المحطة ، وهناك تفتح له أبواب الرّزق ليشتري بيتا، وفي يوم من الأيام يتعرّف إلى رجل من الشّام يعرف أخاه من أمّه، فيطير إلى الشّام إلى جرمانا، ويلتقي بأمّه، وهنا تنتهي الرّواية بأحداثها الرّئيسة، وفي ثناياها مشاهد وأحداث وتفاصيل مثيرة مبكية.
والمرأة الفلسطينيّة هي محور هذه الرّواية، وإطارها هو النّكبة بكل حيثياتها، التّشرّد ومفارقة الوطن والأهل والولد والزّوج، وحياة اللجؤ والمخيم وانتظار العودة، وتخوض المرأة في هذه الرّواية صراعين: صراعا مع الاحتلال، تخوضه جنبا إلى جنب مع الرّجل، وصراعا اجتماعيّا يدور في أعراف وعادات تذهب المرأة فيها ضحيّة، تورّثها صراعا داخليّا مؤلما، فمن الصّراع الأوّل هجرتها وتشرّدها ومقاومتها لآثار الهجرة بإصرارها على العمل، وتحمّل تبعات الحياة مع الرّجل جنبا بجنب، وأبرز مظاهر هذا الصّراع ما كان مع مريم عندما وضعت وليدها في أحد مشافي عكا، وكان زوجها زياد الفالح يتسلل إليها من لبنان في الأسبوع مرّتين، وثباتها أمام المحقّق الذي حاول أن يساومها على السّماح له بالعودة مقابل أن تكون هي وزوجها عيونا للاحتلال، فترفض ذلك رفضا باتا، وتفضّل ألم بعده عنها على العودة المعيبة.
بدت المرأة الفلسطينيّة في هذه الرّواية في أروع مثال وأجمل صورة، صورة منسوجة من خيوط الصّبر(صبر رحاب مع أمّ الزّوج الأوّل طارق)، والوفاء ( وفاء ميسون لخطيبها)، والانتماء للوطن والقضيّة، والانتماء للأسرة (فليحة وعملها في مزرعة العمّ أبو فاطمة)، والانتماء للشّعب (رفض مريم للتّعامل مع المحتل)، وخيوط المشاعر الصّادقة والعواطف الإنسانيّة الجيّاشة للولد والزّوج والخطيب والأب، وقوّة الشّخصيّة فرحاب تهشم رأس شابّ حاول التّحرش بها، ومن الصّراع الثّاني ما كان مع رحاب في زواجها الأوّل، وما كان مع فليحة التي لقيت ما لقيت على يد زوجها قبل أن ينتحر، وما كان مع مريم عندما حملت من زوجها المتسلل، كيف تواجه النّاس بحملها؟ وماذا يقولون؟ وما كان مع ميسون حيث جاء ليخطبها رجل متقدّم في السّنّ مستغلا بعدها عن خطيبها، ولم يُغفل كاتب الرّواية عرض بعض النّماذج الشّاذّة من النّساء كشخصيّة أمّ طارق، وشخصيّة امرأة طارق الثّانية التي كانت سببا في تشرّد عليّ بن رحاب، والمرأة التي حاولت أن تتّهم مريم في حملها، وهذا ما يشهد على واقعيّة القصّة وصدق التّوصيف لواقع المرأة .
الرّواية من ناحية العاطفة، يغلب عليها الحزن والأسى رغم لحظات الفرح بانفراج أزمة هنا وأزمة هناك لبعض شخصياتها، ويعبّر عن هذه العاطفة العبارة التي تلازم معظم المشاهد، وتتردّد على ألسنة شخصيّاتها وتختم بها الرّواية، وهي ( ما أصعب الفراق! ) عبارة جاءت بأسلوب التّعجب القياسيّ، تعبّر عن جرح عميق أورث جراحا لا تندمل، وتشعر أنّ مردّدها يخرجها من أعماقه بزفرات محرقة، نعم ففي فراق الأهل (ما أصعب الفراق!) وعند فراق الولد( ما أصعب الفراق! )، وفي فراق الزّوج أو الخطيب( ما أصعب الفراق !)، ولكنّها كانت عظيمة في فراق الوطن، وهكذا استطاع الكاتب أن يلخص مشاهد الحزن والأسى، ويأبى الكاتب إلا أن يعطي فراق الوطن عبارة أخرى تعكس مأساة الفراق في نفس الفلسطينيّ عندما نسمع كثيرا من الشّخصيّات تقول: "ليتنا متنا في ديارنا وما خرجنا منها ."
المحور الثّاني في الرّواية بعد المرأة أو ما أسميناه هيلكها أو إطارها العامّ، لم تكن فيه صورة المعاناة غائبة عن القارئ من قبل، فصور التّشرد تملأ الرّحب، ونطالعها بأمّ أعيينا صباح مساء، إنّما الجديد والذي أبدع فيه الكاتب هو كيف استُقبل المشرّد الفلسطينيّ في بلاد العرب وبخاصة سوريا، وتلك الحفاوة التي لقيها المهجّرون في السلوقيّة وجرمانا، وما قدمه العمّ كمال لرحاب وزوجها وفليحة وأبنائها، وما كان من زواج الفالح والفرحان لبنات الرّجل اللبنانيّ، فلم يلق الفلسطينيّ الرّفض من هذه الشّعوب، بل لقي حسن الاستقبال والتّعاطف وأيدي العون، وهنا يحاول الكاتب أن يصوّر براءة هذه الشّعوب في تلك الأيام، فلم يكن هناك طائفيّة ولا مذهبيّة، فبنو معروف (الدّروز) يستقبلون المشرّدين بحفاوة منقطعة النّظير، ووأبو نبيه الشّيعي يزوّج ابنتيه لفلسطينيين سنّيّين، والرّجلان يسمّيان ابنيهما بكر وعمر، وأمّ مريم عندما تسمع الخبر لا تعرف ما معنى شيعيّ، فالرواية محاولة لطمس وهدم الطائفيّة والمذهبيّة.
وتعدّ هذه الرواية بحقّ توثيقا تاريخيّا لجانب إنسانيّ في نكبة فلسطين، وتفاصيل التّشرّد والمعاناة، واستقبال الفلسطينيّ المهجّر في بلاد العرب، وقد أشار الكاتب إلى بعض الأمور التّاريخية كإخلاف الانجليز وعدهم للحكّام العرب بحلّ قضية فلسطين مقابل إنهاء ثورة 1936 ووقف الإضراب الكبير، ومنها ما جاء على لسان إمام المسجد في جرمانا حيث عرّف الناس بعزّ الدين القسام، ومن جانب آخر تعدّ الرّواية وثيقة لأمثال وأقوال شعبيّة فلسطينيّة، فقد وثقّ الكاتب أو وظّف التّراث القوليّ في أثناء أحاديث الشّخصيّات وحواراتها، مثال ذلك : ( المال اللي تجيبه الريح تاخذه الزّوابع)، وغيره الكثير الكثير .
هناك بعض الأحداث التي حاول الكاتب أن يمرّ بها، والتي قد تكون ظواهر اجتماعيّة، مثل استغلال أو محاولة استغلال الأطفال المشرّدين في أسواق العمل في البلاد العربيّة، وهذا ما كان مع عليّ في كراج أبي عبدالله وغيرها .
الللغة فصيحة سلسة، لا غرابة في ألفاظها، وهذا ما يفرضه توصيف أحداث واقعيّة، وعباراته بعيدة عن الرّمزيّة، ولكن لا تخلو من ومضات موحية، كقول أبي اسكندر لعلي ربيع: "ما يهمّني هو العمل أمّا عشقكم للبحر فهذا شأنكم. ولم يشأ الكاتب أن يشغل القارئ بلغة الاستعارة والخيال البعيد، ويلاحظ أنّ الصّور الفنيّة قد أتت عفو الخاطر لا تكلف فيها من مثل قوله: " كان النّسيم العليل يتسلّل من فوق بحيرة طبريا حاملا رائحة الموت ... وغراب الجوع يفرد جناحية على جموع اللاجئين" . ومّما ميّز أسلوبه اللغوي أنّه كان يحرص على وضع الألفاظ العاميّة أو الأمثال والعبارات الشّعبيّة بين قوسين، كقوله : (الهجيج)، وأرى أنّ الكاتب ربما اختار أسماء بعض شخصيّاته بعناية فائقة، فمنها ما يحمل إيحاءات نفسيّة مثل: رحاب، أو تاريخيّة مثل ميسون، أو دينيّة مثل زليخة .
تراوحت الرّواية بين الحوار والسّرد، ولكنّ الغالب عليها هو الحوار الخارجيّ والدّاخليّ، فبهما وصف الكاتب الشّخصيات ورصد الأحداث، وهذا ما أعطى الرّواية بعدا تأثيريّا عميقا، مثال ذلك أنّه جعل رحاب هي من تروي قصّة زواجها من طارق، وما لاقته من أذى وعنت .
وفي الختام يبدو أنّ الكلام في الرّواية يطول، ولكن يجدر أن نشير إلى أنّها تحتمل بعدا رمزيا آخر، لا أرى فيه تعسّفا ولا مبالغة أو تحميل النصّ ما لا يحتمل، وهو أنّ رحاب تمثّل الحالة السّياسيّة التي كان يعيشها أهل فلسطين قبيل النّكبة، وأنّ زواجها من طارق هو وقوع الثّورة في حبائل الإنجليز، فأضحوا ضحايا للمؤامرة، وانتقال رحاب إلى الشّام هو انتقال من يمثّل الحالة السّياسيّة الصّادقة، وأنّ عليّا الذي انتقل إلى رام الله ومن ثمّ إلى الأردنّ هو مولود رحاب، الذي سلم من المكائد والاحتواء، في رام الله وفي الأردنّ، واستطاع أن يلتحق بأصله في الشّام رجلا يحمل مسؤوليّته، فكأنّه مثّل الثّورة الفلسطينيّة، فأمّه في الشّام وبيته في الأردنّ.
وأقول للكاتب لا فضّ فوك، ودام عطاؤك، وروايتك إسهام جليل في إبقاء الذّاكرة الفلسطينيّة حيّة، وكأنّي بك تقول: كي لا ننسى التفاصيل، فتتشوّه صورة النّكبة، بأن تكون ذكرى عابرة، فروايتك تنكأ الجراح، التي طالما حاول الآخرون كتمها أو طمسها، وروايتك تضع علاقة جدليّة بين الهزيمة الاجتماعيّة بما فيها من ظلم وهضم، والهزيمة السّياسيّة التي ما زلنا نكتوي بنارها .