الحاجة إلى كُتب تاريخ عن فلسطين لأطفال فلسطين والعرب
نبدأ النص من موقع أخلاقي/ سياسي يفيد بحقّ الأطفال في الجماعات المهمّشة بمعرفة تاريخهم. وفي حالة الأطفال الذين يترعرعون في مخيمات الشتات الفلسطينية، فلا بدّ لكتب التاريخ أن تخبرهم أن ثمّة فلسطينيين من المناطق الريفية كان لهم الدور الأقوى في مقاومة الانتداب البريطاني وبعده الاحتلال الصهيوني. وبدورهم، كان سكان الريف الهدف الأول لسياسة التهجير الصهيونية.
أظهرت الدراسة التي أعدّها المؤرخ والأكاديمي الفلسطيني - البريطاني نور مصالحة أن مخططات التهجير (الترانسفير) الصهيونية بين عامي 1947 - 1948 استهدفت القرى بشكل خاص. بدأت هذه المخططات في وقت مبكر مع ثيودور هرتزل الذي كتب في العام 1885: "سوف نحاول أن نرفع معنويات ذلك الشعب الفقير خلف الحدود بأن نجد لهم أعمالاً في دول الترانزيت، بينما سوف نرفض أن يعملوا في وطننا". وقد أشار المؤرخ الإسرائيلي الشهير إيلان بابيه في كتابه "التطهير العرقي لفلسطين" إلى أن القرى كانت الهدف الأساس للهجوم الصهيوني من خلال أحد فروع "الصندوق القومي اليهودي" (كيرن كييمت) الذي حضّر "ملفّات القرى" ليتم استخدامها في التخطيط والتنفيذ لعمليات التهجير والتدمير للتجمعات السكانية، من خلال المسح والتصوير والتعرف إلى لوائح العائلات التي شاركت في ثورة 1936.
أسهمت عملية التهجير في توسيع الفجوة بين سكان المدن والقرى. مَن هُجّر من سكان المدن حمل معه إلى المنفى موارد حاسمة من مستوى تعليمي أو تدريب مهني أو علاقات عملية، وحتى أحياناً موارد مالية، مكّنته من الاستمرار اقتصادياً وجعلته في غنى عن الاتكال على المساعدات الإنسانية. أما المهجرين من أهل القرى فوصلوا إلى بلدان المنفى بملابسهم وبعض الموارد القليلة. هؤلاء هم جل سكان المخيمات في مناطق عمليات وكالة الغوث "الأونروا" الخمسة، إضافة للمهجرين داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهم بمعظمهم من أصول ريفية. أما الأهمية السياسية للمخيمات فلا تكمن وحسب بوجود هذه المخيمات بحدّ ذاتها كدليل صارخ على النكبة، ولكن تكمن في سكانها الذين - عبر محنتهم وتغيير اتجاهاتهم ومقاوماتهم ـ هم جزء من التاريخ الفلسطيني.
بحسب تقديرات العام 2011، ثمة 25.6 في المئة من الفلسطينيين المسجلين لدى "الأونروا" يعيشون في 58 مخيما رسميا، في حين أن حوالي 200 ألف فلسطيني يعيشون في مخيمات غير رسمية موزعة بين لبنان وسوريا والأردن وفلسطين المحتلة. وأولئك الذين يعيشون حالياً في المخيمات لا يشكلون شريحة واسعة من الكلّ المؤثر الذي يتميّز بثقل سياسي مهم، ليس محصوراً بالضرورة بالوزن الديموغرافي. وعلى سبيل المثال، فإن العلاقات مع المخيم استمرت لدى أولئك الذين غادروه إلى منازل مستأجرة أو هاجروا. هناك نمط سائد لدى المهاجرين يتمظهر في عودتهم إلى مخيماتهم الأساسية في زيارات دورية. الكثير من النشاطات الاجتماعية والثقافية لمنظمات المجتمع المدني الفلسطينية تستهدف المخيمات، وتنظّم فيها. أما الأخيرة فتستمر في التعبير بجزء كبير عن معنى النكبة في الذاكرة الجمعية الفلسطينية.
ولكن الاختلاف الواقع في المناهج التعليمية بين البلدان التي ينتشر فيها الفلسطينيون يشكل تهديداً متزايداً لهذه الذاكرة الجماعية وللقدرة على الاتصال بين الفلسطينيين. على سبيل المثال، في الأردن، حيث يعيش السواد الأعظم من فلسطينيي الشتات - 40 في المئة من اللاجئين المسجلين - فإن التاريخ الفلسطيني، سواء في مدارس "الأونروا" أو في مدارس الأردن الرسمية والخاصة، جرت "أردنته" بما يتناسب مع السردية الهاشمية التي تقدم الأردن على صورة المخلّص و "ولي الأمر" لفلسطين.
في الأراضي الفلسطينية المحتلة يسود الإرباك عينه: في الضفة الغربية كان المنهاج الأردني معتمداً إلى فترة قريبة، بينما يدرس الطلاب في غزة المنهاج المصري. وفي حين خضعت الكتب التي أصدرتها السلطة الفلسطينية الوطنية لرقابة إسرائيلية وأميركية مشددة، يقولون في الضفة الغربية إنها لم تختلف كثيراً عن المنهاج الأردني السابق. وفي القدس الشرقية، تُخضِع إسرائيل المدارس الفلسطينية لضغوط كبيرة من أجل "أسرلة" المنهاج. هناك، في المدارس بإسرائيل، حيث يعيش حوالي 14.5 في المئة من الفلسطينيين، يُدرَّس التاريخ على أجزاء وليس هناك أي جزء خاص بالتاريخ الفلسطيني بعد الانتداب البريطاني لفلسطين. في مدارس "الأونروا" في لبنان، وحده التاريخ اللبناني يُدرّس. الدولة العربية الوحيدة التي تدرج في منهاجها جزءاً عن فلسطين كانت سوريا.
وهناك أيضاً الأطفال الفلسطينيين الذين يعيشون خارج العالم العربي، حوالي 11 في المئة، موزعين على العشرات من الدول المختلفة، حيث من المستبعد أن تتضمن الكتب المدرسية حتى كلمة فلسطين. وعلى الرغم من أن هذه المجتمعات تتقاسم الحرمان المشترك، إلا أن اختلافات المناهج في المناطق حيث يعيشون تعمق تفتتهم الثقافي والسياسي.
حاولت منظمات فلسطينية مثل Al - Tamer و Al - Jana و Badil أن تصدر كتباً للأطفال باللغة العربية فيها عناصر من التاريخ الوطني، لكن انتشارها وُوجه بعقبات كثيرة من عدم تكافؤ المستوى أو العراقيل في عبورها للحدود.
اعتاد الأطفال أن يعرفوا عن جذورهم وتاريخهم من خلال أهلهم وجدودهم، ولكن حتى ذلك لم يعد ممكناً الاعتماد عليه، لأن الجيل الذي كبر في فلسطين وعرفها وافته المنية أو بات يعد أيامه. وإن كان هؤلاء الأطفال قد تشربوا روايات محكية كافية عن التاريخ من العائلة ومن بيئة المخيم تجعلهم على معرفة بهويتهم، فهل يُعد ذلك كافياً ليتمكنوا من امتلاك الأدلة الكافية لمحاجة المنتشرين على نطاق أوسع في الشتات، لِنَقُل من أساتذة الجامعات وزملائهم من الطلاب؟
حازت المخيمات الفلسطينية على الاعتراف التام كعلامة على الخسارة الفلسطينية، لكن الاعتراف بالاضطهاد الطبقي الحاصل فيها جاء على مستوى أقل. أصبحت القوى العاملة في المخيمات عرضة للاستغلال الرأسمالي (ومن ضمنه الرأسمال الفلسطيني) في جميع المناطق المضيفة، بسبب منعها من الانضمام إلى النقابات العمالية المحلية. وعليه بات هؤلاء في مرمى استغلال الأحزاب السياسية والميليشيات غير الحكومية. ويعاني سكان المخيمات من صعاب عدة كالاكتظاظ والمساكن المتصدعة ونقص المياه والكهرباء وانتشار الحشرات، وهذه مشكلات لا يعاني منها الفلسطينيون ممن يعيشون خارج المخيم. ولطالما كانت المخيمات هدفاً للهجوم العسكري وقمع السلطات.
وفي خضم هذا الاضطهاد، لا بدّ أن نعترف باعتماد أكثرية سكان المخيم على نظام تعليم "الأونروا"، وهو نظام صممته الأمم المتحدة - بإدارة الولايات المتحدة وبريطانيا - لإدماج المهجرين في اقتصادات الدول المضيفة. ونحن نعلم أن تاريخ فلسطين مفقود من نظام "الأونروا" التعليمي نتيجة قرار اتُخذ بعد فترة قصيرة على تأسيسه ليوائم مناهج وكتب الدولة المضيفة. وفي مقابل التاريخ الطويل من النضال الشعبي في وجه نظام "الأونروا" التعليمي، تباطأت المؤسسات السياسية والثقافية الفلسطينية عن سدّ الفجوة من خلال إصدار كتب عن فلسطين مخصصة للأطفال.
التعليم هو الأساس لمساعدة الفرد في إيجاد مكانه وهدفه في العالم، وجهد المفكر الجنوب أفريقي هارولد وولب له استثنائية بالنسبة للفلسطينيين. يؤمن وولب أن الإصلاح التعليمي لا بد أن يقترن بالصراع ضد نظام الفصل العنصري "الأبرتهايد"، لا أن يؤجَّل إلى ما بعد تحقيق حكم الأغلبية السوداء. هكذا دافع عن "التعليم الذي يقضي على الجهل والأمية، ويعزز فهم نظام الفصل العنصري برصد أدوات قمعه وعدم المساواة فيه، ويواجه الفردية التنافسية من خلال التنظيم الجماعي، ويزوّد الناس بالقدرة على تحقيق إمكانياتهم". وصفة وولب هنا تعتبر تقدمية وفيها احتمال للتوحيد. وفي أزمة التفتت الثقافي والجغرافي والسياسي الفلسطينية الحاصلة، نجد في عمله رسالة قوية للفلسطينيين المشتتين.
من خلال تحذير المجتمع من عيوب البرامج التعليمية الحالية، والاختلافات في تعليم التاريخ بين مناطق الشتات، ينبغي امتلاك القدرة على استبدال الإحباط بمساحة نقاش عام، والبحث في معاني إيجاد منهاج موحّد. يفترض ذلك خلق حملات للضغط على "الأونروا" في سبيل دمج التاريخ الفلسطيني في برنامجها التعليمي، من خلال برامج تعليمية إضافية يمكن أن تديرها المنظمات غير الحكومية المحلية، أو من خلال إصدار كتب تاريخ تجعلها متاحة على نطاق واسع.
وتشغل هذه المشكلة بال الأساتذة والأهالي والطلاب والناشطين الثقافيين وحتى الأطفال أنفسهم، من هنا فإن التعليم لديه القدرة على تجاوز الحدود السياسية - الجغرافية. ونتيجة للخضوع الطبقي للمخيمات، فإن برامج التأهيل التعليمية يمكن أن تحول المخيمات إلى مراكز ثقافية، كمبادرة "جامعة في المخيم" في الضفة الغربية. في لبنان أيضاً يأمل الناشطون تأسيس مكتبات بالقرب من المخيم لتكون مراكز للتعلم والمعارِض والنقاش.