الخميس 12-12-2024

سبل النهوض لتجاوز المأزق الوطني

×

رسالة الخطأ

بقلم: هاني المصري

سبل النهوض لتجاوز المأزق الوطني
بقلم: هاني المصري
يصادف اليوم، الثاني من تشرين الثاني، ذكرى مرور 104 سنوات على وعد بلفور، الذي أعطى فيه من لا يملك لمن لا يستحق، وهذه مناسبة للغوص في أعماق الحالة الفلسطينية للمساهمة في وضع سبل للنهوض الوطني الفلسطيني.
لا مساحة للجدال حول أن القضية الفلسطينية تمر بمأزق شامل، وهو حصيلة لحدوث وتراكم عدد من الأزمات (أزمة قيادة، وأزمة مشروع وطني، وأزمة برنامج سياسي، وأزمة فعل نضالي، وأزمة انقسام سياسي وجغرافي، وأزمة نظام سياسي بمختلف مكوناته من فصائل العمل الوطني والإسلامي، وأزمة سلطة ومنظمة، وأزمات عربية وإقليمية ودولية وانعكاساتها على القضية الفلسطينية)، وعدم إيجاد حل لها، ما أدى إلى تحولها إلى مأزق عام متحكم بالحالة الفلسطينية. ورغم إحكامه هناك مخرج إذا توفرت الرؤية والإستراتيجية والقيادة والإرادة.
مظاهر الأزمات وأسبابها وتداعياتها لا تعد ولا تحصى، ونجدها أينما ولينا الأبصار، لذلك لن أتوقف طويلا عندها، وإنما سأركز على سبل النهوض الوطني.

أزمة المشروع الوطني
أبدأ بأزمة المشروع الوطني والبرنامج السياسي، وهي تظهر في أن المشروع الوطني بحاجة إلى إحياء وإعادة تعريف، خصوصًا بعد مرور عشرات السنين التي جرت فيها مياه كثيرة، إذ استُبدل المشروع الوطني الجامع، من مشروع العودة والتحرير والدولة الديمقراطية الواحدة التي تقوم على أساس هزيمة المشروع الاستعماري الصهيوني العنصري، إلى إقامة السلطة الوطنية على أي شبر يتم تحريره، إلى إنهاء الاعتماد على المقاومة لإنهاء الاحتلال وممارسة حق العودة وتقرير المصير وإنجاز الحرية والاستقلال بتجسيد الدولة الفلسطينية على حدود 67، وتحوله إلى البرنامج المرحلي؛ برنامج الدولة الفلسطينية وبديل عن المشروع الوطني.
وتحول برنامج الدولة إلى ما يسمى حل الدولتين من خلال المفاوضات والتنازلات، والذي تحول شيئًا فشيئًا إلى حل نهائي حتى بات الحد الأقصى، بدليل الموافقة على مبدأ تبادل الأراضي، وضم الكتل الاستيطانية، والمناطق الحيوية إلى إسرائيل في أي حل نهائي، وصولًا إلى أن بقاء السلطتين عن طريق الاقتصاد وخطوات بناء الثقة مقابل التهدئة والأمن هو الهدف، إذ تمت المساومة حول الحقوق الأساسية والمقايضة ما بين الدولة وحق العودة، خصوصًا بعد توقيع اتفاق أوسلو، وما ترتب عليه من اعتراف الضحية بحق الجلاد في الوجود والعيش بأمن وسلام، والتخلي عن المقاومة، والقبول بالتنسيق والتعاون الأمني، وتبعية الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الإسرائيلي.
وأكبر دليل على أزمة المشروع الوطني تقديم المقاومة كخيار بديل، وهي أداة وإستراتيجية عمل، وما نراه من بازار الخيارات المطروحة من حل الدولتين، إلى قرار التقسيم، إلى حل الدولة الواحدة بمختلف أشكاله، من دون تمييز ما بين المطالب والأهداف وبين الخيارات لتحقيقها، وبين الممكن والمستحيل، وما يمكن تحقيقه اليوم وما يمكن تحقيقه غدًا وبعد غد، في حين ما يجري عمليًا على الأرض إستراتيجية بقاء للسلطتين في أجزاء من الضفة وفي قطاع غزة انتظارًا للمجهول الذي ليس مجهولًا إذا أمعنا النظر فيما ستؤول إليه الأمور لو استمرت على ما هي عليه.
وتم الإمعان في هذا الطريق (طريق المفاوضات والتسوية) من خلال بناء التوافق الوطني على أساسه الذي بدأ منذ إعلان القاهرة في آذار 2005، وترسّخ في وثيقة الأسرى التي أكدت بشكل جماعي على هدف إقامة الدولة الفلسطينية على حدود 67 وعلى خيار التسوية والمفاوضات في الوقت الذي لم يعد يوجد فيه شريك إسرائيلي حتى وفق صيغة أوسلو. هذا في الوقت الذي كان يفترض فيه مراجعة مسيرة أوسلو، خصوصًا بعد فشل قمة كامب ديفيد، والانقلاب الإسرائيلي على الاتفاقيات، من خلال اقتحام مناطق السلطة وحصار الرئيس ياسر عرفات ثم اغتياله، والتراجع عن وهم إمكانية إقامة الدولة الفلسطينية من دون تغيير موازين القوى بشكل جوهري، لا سيما في ظل توجّه إسرائيل أكثر وأكثر نحو اليمين، والتمسك بشكل أعمق بفرض الحل الإسرائيلي الذي لا يقبل التسوية، ولا يتسع لأي حق من الحقوق الفلسطينية.
"هنا الوردة فلنرقص هنا"، فبدلًا من الاتفاق على التراجع عن اتفاق أوسلو، ووضع خطة للتخلص منه، عبر وضع إستراتيجية متعددة الأبعاد لإنجاز المشروع الوطني بعد وصول الإستراتيجيات الأحادية المعتمدة إلى طريق مسدود، بات الخلاف بين من يوافق على احترام التزاماته ومن يريد الالتزام بها.
وهنا مربط الفرس وكعب أخيل الحوار الوطني والاتفاقات التي عقدت، والذي يفسر لماذا فشلت، فهي بين فريق توهّم أنه من خلالها يواصل قيادته منفردًا أو بشركاء لا يؤثرون على من يصنع القرار، وبين فريق توهّم بإمكانية التخلص من أوسلو من داخل مؤسساته، من خلال الانتقال من إستراتيجية المقاومة المسلحة الأحادية إلى برنامج الحد الأدنى المشترك، الذي يتضمن المفاوضات والتهدئة، بزعم أنه لا يتناقض مع برنامج المقاومة والتحرير والعودة، وذلك من أجل يفتح له هذا الأمر طريق الاعتراف به كشريك فلسطيني.
وعلى الرغم من تغيير موقف القيادة المتنفذة من الالتزام بالاتفاقات إلى التحلل منها مرات عدة، لم يتم اعتبار هذه النقطة هي الأساس الذي يمكن أن تقوم عليه الوحدة الوطنية.

أزمة القيادة
ما سبق يقودنا إلى النقطة الثانية، وهي أزمة القيادة والنظام السياسي كله، فأزمة المشروع الوطني التي أدت إلى أوسلو، والناجمة من عدم تجديد القيادة التاريخية وتغييرها وإصلاحها وضخ دماء جديدة في شرايينها - خصوصًا حركة فتح العمود الفقري للثورة والسلطة والمنظمة - وعدم إقامة حكم رشيد يحتكم إلى الشعب من خلال إجراء الانتخابات بشكل دوري؛ وفّر الفرصة لصعود الإسلام السياسي ممثلًا بحركتي حماس والجهاد الإسلامي، الذي بات بعد انخراطه في المقاومة في وضع لا يمكن تجاهله، ولا بد من الاعتراف به كشريك كامل، فلم يعد بالإمكان قيادة السفينة من قائد واحد أو فصيل واحد أو من فصائل المنظمة وحدها، فلا بد من فتح المنظمة والسلطة للشركاء الجدد، ولرسم خارطة جديدة تتناسب مع الحقائق الجديدة واللاعبين الجدد. فاحتكار القيادة والمؤسسة وحصرها في السلطة والمنظمة بيد شخص أو فصيل أو اثنين، أو الأدق مراكز قوى تتغطى بالفصائل، ساهم في تعميق الأزمة، وتحولها إلى مأزق شامل.
إن التعامل مع الحوار الوطني والاتفاقات المنبثقة عنه كمجرد تكتيك مقصود منه من طرف أهداف آنية، وأن ينضوي القادم الجديد تحت مظلة القيادة القديمة، وإسقاط سلطته في غزة، فيما يسعى الطرف الآخر للاحتفاظ بما لديه (السيطرة على قطاع غزة) وتحقيق إنجازات جديدة في السلطة في الضفة، والمشاركة في المنظمة.
عبّد عدم حل مسألة المشروع الوطني وعدم وضعها كأساس للحوار والاتفاق، وتقاطعها مع أزمة القيادة، الطريقَ للانقسام السياسي والجغرافي والمؤسسي، الذي لا يقل خطورة عن النكبة وهزيمة 67، وبالتالي الانقسام ليس نعمة كما يتصور البعض استنادًا إلى رأي مفاده بأن الوحدة وكأنها تقوم فقط على أساس خيار التسوية والمفاوضات واتفاق أوسلو، ولا يمكن أن تقوم على أساس خيار المقاومة والكفاح المتعدد الإستراتيجيات لتحقيق الحقوق الوطنية.
إن الانقسام نقمة، ولن تقوم للفلسطينيين قائمة إن لم يتوحدوا على أساس الشراكة الكاملة والقواسم الوطنية المشتركة وبأفق نهائي لا يكتمل إلا بتحقيق حقوقهم الأساسية.
سبل النهوض الوطني
هناك من يبسط المأزق ويقدم حلًا تبسيطيًا بالدعوة إلى العودة إلى الأصول والجذور، والتخلي عن التسوية والحلول المرحلية، وحل السلطة وتبني المقاومة المفتوحة حتى التحرير والعودة. وهو لا يبذل مجهودًا في التفكير حول كيفية وإمكانية تحقيق كل ما تقدم.
وهناك من يواصل التبسيط ويطرح تارة حل إسقاط النهج المتنفذ بالقيادة ورموزه، وينادي تارة أخرى بالشراكة، أو بالأحرى المحاصصة والاقتسام معهم، أي يتذبذب بين الإسقاط وعقد الصفقات الثنائية.
وهناك من يكتفي بتسجيل موقف للتاريخ من دون تقديم بدائل.
وهناك من لا يرى سوى التعامل مع الواقع من خلال الخضوع له والسعي لإصلاحه، على أساس أن بقاء الوضع الراهن أقصى وأفضل ما يمكن أن يحدث.
وهناك من يصور أن الشرور والرزايا عند طرف واحد ويبرئ الآخرين من أي مسؤولية أو تحميلها مسؤولية جزئية، من دون أن يواجه الواقع، وهو إذا كانت القيادة المتنفذة أقلية كيف لا تزال قادرة على التحكم بالأغلبية، فلماذا لا تكون الأغلبية قادرة على قلب الطاولة وتغيير معادلة القيادة الفلسطينية؟ السبب لأنها لم تقدم بديلًا كاملًا لا نظريًا ولا عمليًا، بل تتذبذب بين الخضوع للواقع والسعي لتجاوزه بشكل مغامر من دون تقديم نموذج مختلف قادر على الانتصار.
لا يا أيها السادة والإخوة والرفاق، لا تتحمل القيادة المتنفذة المسؤولية وحدها، بل تتحمل الفصائل الأخرى والنخبة مسؤولية أساسية فيما وصلنا إليه، فهي لم تقدم النموذج والبديل القادر على تجاوز القائم. صحيح أن القيادة تتحمل مسؤولية أكبر وبكثير، ولكن من دون تنصل الآخرين من مسؤولياتهم.
ألم يكن من الخطأ دخول السلطة والاستعداد للانخراط في المنظمة من دون وضع المشروع الوطني، والبرنامج السياسي، والموقف من أوسلو والتزاماته، وقواعد العمل المشترك، وأهدافه، على طاولة الحوار الوطني؟
وألم يؤد هذا الخطأ إلى سلسلة من الأخطاء الأخرى، مثل جعل المقاومة محصورة في قطاع غزة المحاصر ما حولها رغم صمودها وشجاعتها وإنجازاتها إلى أداة في خدمة السلطة أكثر ما هي إستراتيجية للتحرير، الأمر الذي أدى إلى تحول التهدئة إلى سياسة عامة، تتخللها مواجهات عسكرية كل بضع سنوات؟
وألم يكن من الخطأ تفويض الرئيس وقيادة المنظمة أكثر من مرة في ظل عدم وجود شريك إسرائيلي للتسوية، ومن دون الاتفاق على برنامج وطني، واستخلاص الدروس والعبر من التجارب السابقة بالتفاوض باسم الجميع؟
وألم يكن من الخطأ، كذلك، تشكيل حكومة فئوية منفردة بعد فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية، جاء في برنامجها أنها تحترم الاتفاقات، والموافقة بعد اتفاق القاهرة على أن يرأس الرئيس حكومة الوحدة الوطنية، وغض النظر عن تفرده فعليًا بتشكيل حكومة التوافق الوطني بعد إعلان الشاطئ في العام 2014، وصولًا إلى الموافقة على أن يكون رئيسًا توافقيًا في الانتخابات الرئاسية، وتشكيل قائمة موحدة لخوض الانتخابات التشريعية المتفق عليهما في تفاهمات إسطنبول في العام 2020؟ نتساءل: هل هو رئيس شرعي وطني أم غير شرعي وخارق للإجماع الوطني؟
إن الانتقال من الدعوة للمشاركة إلى طرح البديل وتشكيل مرجعية وطنية جديدة، وأن المخرج يمكن أن يكون عبر الانتخابات أو تشكيل قيادة انتقالية أو تشكيل حكومة وحدة، وكأن مثل هذه الخطوات ستكون خطوة إلى الأمام في ظل الانقسام وتحت الاحتلال ومن دون التوافق على برنامج وطني وشراكة حقيقية؛ يدل على انتقائية وتجريبية وردة فعل وبراغماتية مقلقة، وعلى عدم وجود رؤية متماسكة، وعلى وجود آراء عدة تحاول أن تُوفّق ما بينها من دون انسجام حول موقف واحد.
إذا كنا في مأزق ووقعنا في قاع البئر ونحن كذلك، فلا يجب أن نصور أو نتصرف وكأننا في أحسن حال، أو حتى في حال جيد أو سيئ فقط. وإذا كنا في القاع يجب أن نبدأ في البحث عن الطريقة أو الحبل الذي سنمسك به، والذي سيمكننا من الصعود إلى خارج البئر، ولن نخرج بالشعارات أو الينبغيات أو الغيبيات والانفصال عن الواقع أو القفز عنه لا بالتواكل ولا بالتهور.
وإذا كنا في وضع رغم كل عناصر الصمود ونقاط الضوء لا نستطيع أن نفرض فيه الحلول، فيجب أن نعمل على تقليل الأضرار والخسائر، والحفاظ على ما تبقى لدينا، وتوفير مقومات الصمود حتى يتغير الحال ونقف على أقدامنا، وبعد ذلك نسير نحو تحقيق أهدافنا وفرض حلولنا.
إذا كان أوسلو أصل الداء وهو كذلك، إلا أنه عملية مستمرة من حوالي ثلاثين عامًا وحصيلة أوضاع عربية وإقليمية ودولية، والتخلص منه عملية وليس مجرد قرار، ولاحظنا كم مرة اتخذ قرار بالتحلل من الاتفاقيات والعودة عنه لعدم وجود الخطة ولا القناعة ولا الإرادة ولا الضغط السياسي والشعبي الكافي. أوسلو أوجد بنية قوية متكاملة لها جذور، وتدافع عنها جماعات المصالح، ولا يمكن التخلص من أوسلو بضربة واحدة بمجرد الحديث عن ذلك، بل لا بد من بناء البديل، ووضع خطة، وتوفير مستلزمات تنفيذها.
وإذا كان حل الدولتين قد سقط، وهو بنظري لم يكن ممكنًا أبدًا في أي وقت عن طريق المفاوضات والتنازلات واللهاث وراء التسوية، فهذا لا يعني أن العوامل والمخلفات التي خلفها قد زالت، فهناك 140 دولة تعترف بالدولة الفلسطينية، والقانون الدولي والشرعية الدولية يتضمنان الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، ومعظم العالم لا يزال يؤيد حل الدولتين، وهناك 5 مليون فلسطيني في الضفة والقطاع لا يزالون يشكلون أغلبية، وإسرائيل تخشى من القنبلة الديمغرافية، والسلطة ملتزمة بالتزامات وقيود وعلاقات عربية وإقليمية ودولية، فكل هذا لن يزول بجرة قلم ولا بإطلاق تصريح، خصوصًا أن قطاع غزة بات خارج الاحتلال المباشر، بينما الضفة مقسمة بين مناطق ضمت لإسرائيل، ومناطق خاضعة للسلطة الأمنية والمدنية للسلطة، ومناطق خاضعة كليًا ومباشرة للاحتلال.
صحيح أن المجتمع الدولي والشرعية الدولية لا تحرران الأوطان، ولكنهما سلاح مهم في أيدي القضية الفلسطينية، ولا تملك ترف التخلي عنهما، وإذا فعلت ستدفع أثمانًا جديدة ولا تفتح الطريق لخيارات جديدة، فالخيار المطلوب يجمع ما بين مسائل عدة، وما بين الماضي والحاضر لمعاينة القدرة على التقدم نحو المستقبل.
يكمن المخرج في وضع رؤية شاملة تبدأ بتشخيص الواقع الحالي بكل ما فيه، وتضع الأهداف النهائية والقريبة والمتوسطة، والإستراتيجيات والخطط والأدوات القادرة على وصولنا إلى ما نريد.
يقولون لنا بأن لا مقاومة من دون حل السلطة، ولا يقولون لنا من سيحل السلطة، وهل هذا يشمل السلطة في القطاع والسلطة في الضفة؟ وإذا حلت السلطة ما الذي يضمن عودة الاحتلال المباشر من دون سلطة وكيلة عنه، وأنه لن يقيم أو يساعد على قيام سلطة أو سلطات بديلة عن القائمة كما هو مرجح.
يبدأ تغيير الواقع بالاعتراف به، والتعامل معه من أجل تغييره، عبر السعي لتحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه في كل مرحلة، من دون خضوع ولا مغامرة، فلماذا لا ندرس خيار تغيير السلطة لتكون خدمية من دون تنسيق أمني، وننقل مهامها السياسية إلى المنظمة، التي تحتاج مؤسساتها إلى ضم مختلف الألوان، وإلى إعادة بناء على أساس ميثاق وطني وبرنامج سياسي ومؤسسات فاعلة على أسس ديمقراطية توافقية؟
ويقولون لا وحدة بسبب الانقسام الجغرافي، ولا يتوقفون أمام الوحدة التي كانت قائمة قبل الانقسام إلى سلطتين مع وجود فاصل جغرافي، ولا قبل أوسلو في ظل احتلال إسرائيلي لكل فلسطين، أي قبل السلطة، وينسون أن السلطة قاومت الاحتلال، وتمردت على أوسلو في الانتفاضة الثانية، ولو واصلت هذا الطريق لكنا أمام بدائل، منها سلطة جديدة تركز على توفير مقومات الصمود والخدمات، وتكون مجاورة للمقاومة، ولا أقول سلطة مقاومة، لأن السلطة إذا تبنت المقاومة، خصوصًا المسلحة، في ظل موازين القوى الراهنة فستُدمر. فالمقاومة بكل أشكالها حق، ولكن أي أشكال تستخدم، في ظل الأوضاع الإسرائيلية والمحلية والإقليمية والدولية الراهنة، وما الشكل الرئيسي في المرحلة الراهنة؟ هذا بحاجة إلى قرار وطني مشترك.
يكمن الحل في بلورة تصوّر شامل متكامل عبر حوار وطني شامل تنبثق عنه رؤية تحدد نقطة البداية ونقطة النهاية، ضمن فهم أن الهدف النهائي المستند إلى الحقوق الأساسية لا يمنع المراحل والخيارات والبدائل والبرامج، شرط ألا تكون على حسابه، بل خطوات على طريق تحقيقه.
في هذا السياق مفترض أن تكون الشراكة خيارًا إستراتيجيًا وليس تكتيكًا مبنيًا على أن مكونات الحركة الوطنية كافة، ومن ضمنها حركة حماس التي تبنت المقاومة والمشاركة وعمقت طابعها الوطني، وحركة فتح التي لا تزال في الصف الوطني، بدليل أنها لا تزال تقدم الشهداء، وتقاوم الاحتلال مقاومة شعبية وسياسية من جهة، وتتعاون معه من جهة أخرى للحفاظ على السلطة، وجراء رؤية طبيعة المشروع الصهيوني وخصائصه وجذريته، وعدم استعداده للتسوية، لا مع المعتدلين ولا مع المتطرفين الفلسطينيين، ما يقدم قاسمًا مشتركًا عظيمًا يجمع الفلسطينيين، إلا إذا فُرضت عليه التسوية بالقوة وعبر تغيير موازين القوى.
ما الذي يمنع الكفاح بشكل متوازٍ ومتزامن لإنهاء الاحتلال للضفة والقطاع، ومن أجل حق العودة، والمساواة الفردية والقومية لشعبنا في الداخل، من دون تنازل عن الهدف النهائي والمبادئ والحقوق الأساسية، وعن الرواية التاريخية الفلسطينية العادلة والمتفوقة أخلاقيًا؟
هناك بديل في العلاقات الوطنية عن الصفقات الثنائية أو التخوين أو إدارة الانقسام والتعايش معه، يتمثل في بناء جبهة وطنية عريضة لا تقدم نفسها كبديل ولا مرجعية جديدة، ولكنها تسعى عن طريق الضغط السياسي والشعبي المتراكم إلى الشراكة والوحدة بين مختلف مكونات الحركة الوطنية على أساس برنامج القواسم المشتركة والمبادئ والمصالح وتوازن القوى الداخلي، فهذا هو التغيير الممكن على طريق التغيير الشامل ... فهل نتعظ قبل فوات الأوان؟

انشر المقال على: