حارسة الذاكرة/ سهام نايف أبو غزالة
فيحاء عبد الهادي
لم تكفّ عن زراعة الأمل.
تزوَّدت بالعلم والمعرفة،
وتسلَّحت بالحب والعزيمة،
وامتشقت الإبرة والقلم في آن.
أمسكت خيوط النسيج ببراعة واقتدار،
وصمَّمت لوحات فنية تراثية، ولا أجمل!
أمسكت القلم، وسجّلت جانباً من تجربتها الشخصية في العمل النقابي،
آمنت بالعمل الجماعي،
وآمنت بالعمل المؤسَّسي، وناضلت طيلة حياتها؛ لتثبيته منهجاً عبر عملها النقابي.
آمنت بقدراتها، وبقدرات أبناء شعبها الفلسطيني، وبقدرات الشعوب العربية،
وعلى خيط رفيع مشت؛ بتوازن بين الخاص والعام، وبثقة عالية بالقدرة على الإنجاز.
*****
ولدت سهام نايف أبو غزالة في يافا العام 1940، ونشأت في نابلس، في بيت علم وثقافة ووطنية، ورحلت عن عالمنا يوم 26 حزيران، 2021.
تزوّجت العام 1958، وانتقلت مع زوجها "محمود محمد أحمد أبو غزالة" إلى الكويت، حيث استكملت دراستها الجامعية في علم النفس والاجتماع، وتخرّجت العام 1970، ثم عملت في جامعة الكويت مدة ثماني سنوات.
خلال وجودها في الجامعة، وبالتحديد بعد هزيمة العام 1967؛ طالبت مع زميلاتها بالتدريب على السلاح، ولكنها وقد وجدت أن التدريب شكلي فقط؛ بحثت عن أشكال عمل أكثر فاعلية؛ ما دفعها إلى أن تؤسِّس مع زميلاتها الفلسطينيات والكويتيات مشروعاً هدف إلى دعم الشعب الفلسطيني مادياً وإعلامياً.
انتسبت إلى الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية فرع الكويت العام 1969؛ لكنها تفرّغت للعمل في الاتحاد العام 1974، وبدأت نشاطها التطوعي باللجنة الاجتماعية، ثم ترأست لجنة التراث، ثم لجنة التعليم؛ ما جعلها تدمج في خطة العمل بين الاجتماعي والتراثي والتربوي.
بداية لم يكن لها خبرة في مجال التراث؛ لكنها تعلّمت فنون التطريز على يد امرأة بارعة من سلواد اسمها: "لطيفة السالم مبارك"، وتزوّدت بالمعرفة التراثية والتاريخية، عبر كتب عدد من المؤرِّخين، منهم: "وليد الخالدي"، و"مصطفى الدباغ"، وكتب الرائدات: "وداد قعوار" و"سيرين الحسيني"، وعبر التعلّم من رائدات سبقنها إلى احتراف التطريز والمحافظة على التراث؛ المبدعتين: "ملك الحسيني" و"ليلى قطان".
وبعد أن تشرّبت العلم والمعرفة؛ أبدعت وطوَّرت، ونقلت خبراتها إلى العديد من الصبايا الفلسطينيات.
*****
اعتبرت أن المرأة الفلسطينية، وهي تطرِّز ثوبها؛ تسجِّل بفنية عالية تاريخ حياتها ومنطقتها الجغرافية، كما تسجِّل علمها، وطبّها، وفصولها.
آمنت بأصالة التطريز الفلسطيني، وأنه نابع من بيئة فلسطين؛ زهورها وأشجارها وطيورها وأرضها ومناخها، واختلفت مع الكتاب الذين ذكروا أن التطريز وصلنا من الصين أو روسيا أو مع الحملات الصليبية.
لم تنكر تأثر فلسطين، بمن مرّ بها أو استوطن فيها؛ لكنها أصرَّت على إيصال رسالة محتواها أن الأصل هو تراثنا، وأنه من الضروري أن نفخر بالتاريخ الفلسطيني والهوية الفلسطينية.
طالما أوردت أمثلة حول تأثير البيئة والمعتقدات والأحداث السياسية على المرأة الفلسطينية التي تطرِّز.
كانت تبرز مثالاً دالاً، حين تتحدث عن ثوب من رام الله به بنايق (ورد كبير)؛ فوجئت حين استلامه من امرأة من المطرِّزات بأنها نزعت قلبه، ووضعت قضبان سجن داخل الوردة؛ ما أثبت لديها بالملموس أن التراث الفلسطيني يستوحي من واقعه، وأنه متحرّك ومتطوِّر عبر الزمن.
*****
حين استلمت "سهام أبو غزالة" رئاسة لجنة التراث؛ بدأت بتنظيم أول معرض تراثي في بيتها، وبعدها انتقلت المعارض إلى مقرّ اتحاد المرأة في الكويت مرّة، وإلى إحدى المؤسَّسات أو الجمعيات الكويتية الصديقة مرّة أخرى، ولقيت المعارض نجاحاً باهراً.
حرصت لجنة التراث على أن يحتوي كل معرض على التراثي والثقافي والسياسي والإعلامي؛ حيث يجد الزوار المطرَّزات الفلسطينية، والأطباق الشعبية الفلسطينية، والكتب الثقافية والسياسية، والمصنوعات الفلسطينية التقليدية، واللوحات الفنية، والبوسترات التعريفية بالقضية الفلسطينية، والدبكة الفلسطينية، بالإضافة إلى ألعاب فلسطينية للأطفال. واستمرّ تنظيم المعرض سنوياً في الكويت حتى نهاية العام 1989.
جابت العالم مع زميلاتها للتعريف بالتراث الفلسطيني عبر تنظيم معارض تخللتها محاضرات ثقافية، في كل من: شيكاغو، وبروكسيل، وجنيف، وروسيا، وسويسرا، وأستراليا، واليونان، ومصر، والجزائر.
*****
في عمان، وفي العام 1991؛ أسَّست الرائدة مع الرائدتين "سهام الدباغ" و"سهام سكر"، ومع عدد من النساء الفلسطينيات مركز التراث الفلسطيني، ليكون امتداداً لفرع الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية في الكويت، بدعم من سفارة فلسطين في عمان.
واستمرّ في عمله الثقافي، وتنظيم المعارض في عمّان بشكل رئيس، ثم في أبو ظبي، والشارقة، وعُمان، وتونس.
ومنذ العام 1992، عاد المركز لينظِّم المعارض في الكويت، في بيت "سهام أبو غزالة"، كما نظّم في مقرّات جمعيات كويتية غير حكومية، طالما احتضنت معارض المركز السابقة.
*****
حرصت سهام أبو غزالة على أن تعمل كمستقلة ضمن الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية/ فرع الكويت، رغم صعوبة العمل كمستقلة داخل صفوف الاتحاد العام، الذي يعاني تنظيمياً من غياب التقاليد الديمقراطية.
آمنت بالعمل كفريق، وبالعمل المؤسّسي الديمقراطي، منذ بدأت عملها كعضوة في الاتحاد، مروراً بعملها كنائبة لرئيسة الاتحاد، ورئيسة لجنة التراث، إلى أن انتخبت رئيسة للاتحاد العام 2020؛ ولذلك حرصت طيلة فترة عملها على أن تناضل من أجل تكريس احترام الأنظمة واللوائح التنظيمية الداخلية للاتحاد، والعمل وفقها.
*****
سهام أبو غزالة،
لم تمسكي الخيط والإبرة لتصمِّمي لوحات تراثية فنية فحسب؛ بل أمسكتِ خيوط العمل النقابي ببراعة وحكمة واقتدار، وأمسكتِ خيوط الرواية التاريخية الفلسطينية، لتحيكيها، وتنثري الأمل.
شهدتِ بكل فرح انطلاق الهبّة الفلسطينية الباسلة من القدس، والتي امتدّت لتشمل فلسطين من بحرها إلى نهرها؛ لكنّك شهدتِ أيضاً ضياع البوصلة، وتكريس الانقسام، وغياب المشروع الوطني الجامع.
لن نكفّ أيتها الغالية عن العمل من أجل تحقيق التغيير السياسي والاجتماعي والثقافي، وتحقيق الوحدة، ولن نكفّ عن العمل لتحقيق الاستقلال والعودة.
سوف نفتقد حضورك البهي، وإبداعك المتميز؛ لكن روحك تظلِّلنا، وكتابك حول الحياكة من أجل القَصّ؛ سوف يكون قريباً بين أيدينا "Sew to Speak"، ومكانك في الذاكرة الشعبية الجماعية للشعب الفلسطيني والشعب العربي وأحرار العالم.