تحولات في المجتمع الإسرائيلي!
أكرم عطا الله
لأول مرة يصل مستوطن متدين ليرأس حكومة إسرائيل، في صباح يوم التنصيب نشر صورته وهو يؤدي الصلاة في الكنيس المجاور لمنزله، هي سابقة، لكنها لم تكن مفاجئة لمن يتابع الانزياح الثابت في المجتمع الاسرائيلي نحو اليمين؛ كان لا بد أن يصل لرئاسة أهم موقع من يرتدي القبعة الدينية وتلك كانت فقط مسألة وقت.
تحولات عميقة يشهدها المجتمع الإسرائيلي من دولة أقامها رجل علماني وهو دافيد بن غوريون إلى الدرجة التي أحدثت خشية لدى الأحزاب الدينية في أربعينيات القرن الماضي من إقامتها إلى الحد الذي جعل بن غوريون؛ يقدم ضمانات مكتوبة بأن هذه الدولة العلمانية ستخدم الشعائر اليهودية إلى دولة؛ يقودها رجل دين متطرف بفهمه الديني وغارق في أساطير التوراة، بل وتعتبر مرجعيته السياسية بالدرجة الأولى والاجتماعية إلى حد كبير فهو وريث الصهيونية الدينية، وتلك قصة بدأت منذ نهاية أربعينيات القرن الماضي والآن باتت أكثر وضوحاً.
كيف تم الانقلاب بسقوط حزب العمل نهاية سبعينيات القرن الماضي، والذي كان يمثل الصهيونية العلمانية الاشكنازية لليهود القادمين من أوروبا والذين أشرفوا على صياغة القيم التي قامت عليها الدولة؛ بعيدًا عن الدين ثم تعادل اليمين واليسار في الثمانينيات لتكون ثمرتها الحكومات المشتركة، إلى أن بدأت السيطرة لليمين مع مطلع القرن ومع كل حكومة وانتخابات يتعزز اليمين داخل الدولة والكنيست الذي بات يمثل حوالي 72 عضو كنيست، وكان يمكن لهذا اليمين المسيطر أن يشكل حكوماته بأريحية شديدة لولا الخلاف الشخصي لأقطاب التشغيل الجديد مع بنيامين نتنياهو؛ لأن القيم مشتركة، بل وأكثر ما يجري هو منافسة بين اليمين واليمين أيهما أشد تطرفًا تلك هي اللوحة.
في دراسات إسرائيلية سابقة، كانت ترصد ثقافة الانجاب في الدولة تنبأت نهاية القرن الماضي بتراجع الدولة التي ستشكل فيها كتلتان كبيرتان شكل الدولة ارتباطًا بثقافتهما الانجابية وهما الكتلة الدينية والكتلة العربية وهما الكتلتان اللتان أزاحتا جانبًا؛ شكل الدولة القديم لتحل محله قدر أكبر من نزعات الاختلاف رافقت ذلك الانزياح والتطور؛ فالكتلة الدينية في إسرائيل تكره اليهود العلمانيين وتكره العرب، وتلك التي تتحكم بمفاصل الدولة منذ سنوات ومنذ سقوط آخر قلاع العلمانية في إسرائيل وهو القضاء؛ هاتان الكتلتان، يمكن ملاحظة الجديد في الوعي الاسرائيلي المستحدث وخصوصًا كان بارزًا خلال الشهر الماضي وانتفاضة الشعب الفلسطيني والعدوان على قطاع غزة وحجم التصدي واستهداف المدن الإسرائيلية.
ربما كانت الشعارات التي رفعها المستوطنون في المسيرة التي سارت في القدس ، والتي كان قد تم تفريقها في اليوم الأول للحرب، فقد أطلق المستوطنون شعارات من نوع الموت للعرب وشتائم وأدعية وتماتم كلها كانت تعكس ليس فقط حجم العنصرية التي تتعزز داخل المجتمع الإسرائيلي تجاه العرب بشكل عام، والفلسطينيون بشكل خاص، وما يعكسه ذلك من نهاية لحلم الحل السياسي القائم على رؤية الدولتين، ولكنها تعكس مسارًا ينزلق فيه اليهود نحو قروسطية غادرها العالم منذ زمن، بل أصبحت محل كراهية بالتأكيد حجم ونوعية شعارات المتدينين؛ تعكس أيضاً الشعور بالرغبة بالانتقام بعد تفريق المسيرة الأولى وحجم الغضب من الصواريخ التي وصلت المدن.
المسألة الأبرز في سياق الحرب وما قبلها أي في سياق بداية الهبة في القدس والشيخ جراح هو الحالة التي تجسدت لدى فلسطيني الداخل، ليس فقط في إطار اعادة تشكيل الوحدة وحدة الهوية الفلسطينية بعد سنوات التشتت، منذ أن دخل الفلسطينيون مسار السياسة؛ مستثنيين الفلسطيني في الداخل، بل في إطار الشعور الوطني بأهمية الدور الذي يلعبه الفلسطينيون هناك وشعورهم هم أنفسهم باعتبارهم المدافع الأول عن الهوية الوطنية، وهذا ما حدث حين تعرضت القدس والشيخ جراح للأزمة؛ اندفع الفلسطينيون بكل ما يملكونه من طاقة وقوة نحو القدس والتحقت بهم كافة القرى والمدن والبلدات، وقد تعززت تلك بعد الخرب ما يعني زيادة الأزمة والشرخ مع المجتمع اليهودي ويزداد هذا أكثر بعد أن يتجه المجتمع اليهودي نحو الدين والتدين، فإننا نتحدث ليس عن صدام عابر بقدر أن الأمر له تداعيات شديدة الأهمية على المجتمع في إسرائيل التي تقف فيه الكتلتان الأكبر؛ أمام هذا المخزون من الكراهية: الأولى؛ تطالب بالموت للعرب، والثانية؛ تعتبر أن هذه الدولة التي أقيمت على سرقة ممتلكاتها وتهجير شعبها تلاحق في آخر حصونها الهوياتية والثقافية، بهدف شطبها وهي مضطرة للاستفسار والدفاع عن نفسها، وهذا ما حصل.
إلى أين سيذهب هذا الشرخ أو هذه الشروخ في الدولة بالنسبة للعلمانية اليهودية؟
فقد بدت أنها استسلمت ورفعت رايتها البيضاء أمام تسيد الأغلبية الدينية القومية ولا سيل أمامها إلا مغادرة مجتمع المستوطنين المتدينين، ولكن بالنسبة للفلسطينيين؛ فالأمر مختلف، وخاصة مع التصدع الذي ظهر في التمثيل السياسي؛ إذ ذهبت القائمة المشتركة نحو التشكيل الجديد الاستيطاني للحكومة، بما يمثله تيار التعايش الرافض للصدام والقائمة المشتركة التي ترفض هذا التعايش، وليس من الضرورة انتظار الوقت وسلوك الحكومة لنعرف أن الأمر سينتهي بزيادة الفجوة بين الفلسطينيين والدولة، وهذا سيكون مادة حية للصراع على امتداد سنوات قادمة...!