الأربعاء 24-04-2024

سوريا التي كانت لاعباً.. باتت ملعباً

×

رسالة الخطأ

نصري الصايغ

I ـ أين سوريا؟

ولدت سوريا، مترامية الأطراف، لا تسعها جغرافيتها، ولا تحدها تخوم. لم تلتحق بسايكس ـ بيــكو، لم تعترف ببلفور، ما قبلت التقسيم: فلسطين جنوبها، الأردن امتداد لحورانها نزولا إلى العـقبة، لبــنان أقضية مسلوخة عنها والاسكندرون لواء سليب من أرضها. كانت أما، أبعد عنها أولادها، فما تخلت عنهم، ولو هجروها.
ولدت بقياس أمة: عروبتها سابقة على أحزابها، قوميتها متقدمة على رجالاتها وعسكرها وحكامها، وحدويتها تتخطى جغرافيتها، تتسع من الخليج إلى المحيط.. ولدت سوريا بمخيلة سياسية جامحة: قارعت الاستعمار الفرنسي بالسلاح والسياسة، شاركت في حروب فلسطين كلها، ساهمت في رد العـدوان على مصر، إبان العدوان الثلاثي (جول جمال، أين أنت؟)، ارتفعت إلى مقام الوحدة مـع مصر بتـنازلات كيـانية عزّ نظيرها... إذا نظرت سوريا إلى مـداها، وجدته مديداً.
ولدت سوريا على أن تقنع بما أورثه الاستعمار منها لسواها. لكنها لم تفعل. فاخترقت بسياساتها حدودها، ومدت أذرعها إلى لبنان مراراً، وإلى فلسطين بالسلاح والدعم تكراراً، وإلى العراق امتداداً، وإلى الأردن بمناوشات دائمة. خسرت، لكنها لم تخسر نفسها ولا فقدت روحها
تختنق سوريا إذا ظلت سوريَّة داخل حدود قطرها. لذا، لم تتخلف، باختلاف عهودها وحكوماتها ورجالاتها وأحزابها، عن أن تكون اللاعب المقرر أو المؤثر أو الفاعل أو المسيطر أو المبشر أو المعرقل، في الملاعب العربية، القريبة أو المترامية الأطراف. أمسكت بورقة العروبة ولم تنجح، ولم تتخلّ عنها. أمسكت بورقة العراق، فاستَعْدَتْ وعادت. أمسكت بورقة لبنان، فكان هذا اللبنان، في لهب سياساتها. ولا مرة كان لبنان نائياً عن سوريا، وبلغ بها ان حكمته من داخله وحاربت فيه وتحكمت بقواه. أمسكت بالورقة الفلسطينية، في السياسة وفي الدعم العسكري والتسليح الفدائي. وفي هذه الأدوار، كسبت حينا وخسرت حينا، لكنها ظلت في الحسبان، دولة ذات تأثير ونفوذ، يحسب لها الغرب ألف حساب. تراودها أميركا بنجاح مبتسر مرة وفشل محقق مراراً. تحسب لها دول الخليج حساباً وتزنها بميزان الصيدلاني، في خليج، تحالِفُ فيه خصماً إيرانياً ولاعباً من طراز مختلف.
سوريا لم تكن سوريَّةً. فقط، أبداً.. عاشت عصراً من التحديات الكبرى، راكمت فيه الحضور الفاعل، والثقل الوازن، والموقع الحصين.. كان لها حق «الفيتو». قالت للسادات ومن معه لا. دفعت ثمن ذلك في لبنان في حرب شارون على لبنان، فخرج جيشها منهكاً. ما لبث ان عاد من بوابة لبنانية جديدة ـ قديمة، بوابة وقف الاقتتال بين أخوة الصف الوطني الواحد، بعدما كانت قد دخلت لحماية «أخوة المارونية السياسية» المهددة. في لبنان، أهدرت سوريا اللحظة الاستراتيجية، لتورطها في الزبائنية وممارستها الأبوة الظالمة. سوريا هذه، بلغت فيها فلسطينيتها إلى مرتبة، جعلت سياستها الخارجية مرتكزة على نقطة الثقل الفلسطينية، وعلى مركز الصراع فيها وحولها... حالفت ايران الخمينية، ضد كل العرب، ولعبت دور الممانعة بجدارة. حالفت «حماس» وحمتها ورفدتها يوم عزت على «حماس» الإقامة في الفيافي العربية المتهالكة. حالفت «حزب الله» وانتجت مسيرتهما معاً، انتصارات غير مسبوقة.
سوريا هذه التي كانت لاعباً... صارت ملعباً. فقدت كل شيء، دفعة واحدة. سوريا التي كانت أكبر من أرضها ودولتها وشعبها، باتت ملعباً للاعبين صغار وكبار ودمى من خارجها.
بعد قرن من الحضور في الأزمنة العربية الصعبة والكالحة، سقطت سوريا. كأنها مرشحة للأفول، كأنها على وشك ان تصبح «الرجل المريض» نتوزع تركته فتاتاً ضئيلاً، بلا أي ردود. العالم كله يجتمع عليها كي يعيد إليها الحياة، على هواه.

II ـ سوريا مكتظة بالآخرين

المشهد الدولي ممتلئ بسوريا. تبدو سوريا اليوم محمولة من دولة إلى أخرى، من مدينة إلى مدينة، من محفل إلى تجمع، من مجلس إلى لقاء، من «أصدقاء» إلى «أعدقاء»، من تصريح إلى بيان، من كل مكان إلى كل مكان، باستثناء سوريا البلد، سوريا الدولة، سوريا النظام.
سوريا هذه مهجورة النظام، بما تبقى له من قوة عسكرية وأمنية. بات وحيداً. الجامعة العربية على علاتها وضعفها وتراخيها ولاجدواها، لم تعد تقبل به. عجزة النظام الرسمي العربي القديم يبطرون في إهانته. تركيا الودودة منذ شهور، باتت لدودة وعلى الحدود، وأرضها ممتلئة بسوريا المهجرة المؤلفة من نازحين ومنشقين ومجالس ومعارضة وفرق من «الجيش السوري الحر». حتى الامارات الطاعنة في التخلف والقمع والرجعية، تتعالى عليه، وتدس له الدروس في الحرية والكرامة وحقوق الانسان. لا نتحدث عن «المجتمع الدولي» المنحاز في الأساس ضده. فهذا حكم على النظام بالموت، وينتظر لحظة السقوط ويعمل من أجلها... سوريا اللاعب الأقوى، باتت ملعباً للدول الكبرى والوسطى والصغرى. من أميركا وفرنسا وبريطانيا إلى تركيا والسعودية وقطر... وحتى لبنان... هذا اللبنان المنهك والضعيف، صار بعضه لاعباً في سوريا. وعلى إيقاع المعارك ومساندتها يرقص فريق 14 آذار، الذي بات شمال لبنان، نافذة له، يعبر منها ويعبرون اليه منها... لم تعد سوريا في سوريا. لقد غيرت مكان اقامتها.
وحده القصف والنسف والعنف، تلعب انما على قارعة الأمم فيها بلا هوادة. المعارك لا تستنفد. النظام يستميت كي يبقى حياً. انه يستميت ويميت.

III ـ القتال فيها وعليها

أسفرت الشهور الستة عشر الفائتة عما يلي:
أولا: معارضة متعددة الاشكال والمشارب والقيادات والتنظيمات والولاءات والعقائد والاتجاهات، تتنافس في ما بينها، لكنها متفقة على إسقاط النظام ورموزه وهياكله الأمنية... رأس المعارضة، بعدما كان في البدء تظاهراً سلمياً، بات «جيشا» بصيغة جيوش متفرقة، باسم «الجيش السوري الحر». لهذا «الجيش» من يرعاه ومن يسلحه ومن يحميه ومن يموله ومن يدفعه ومن يؤمن له الذخائر والمعدات اللوجستية ومن يطمح إلى جعله «الجيش» الذي سيبني النظام الجديد... هذا الجيش، هو الناطق الميداني، باسمه، وباسم داعميه، ويستمد شرعيته من الميادين التي يخوض فيها حروبه، ومن التفاف معارضات حوله، وعلى رأسها، «المجلس الوطني»، الذي ولد على عجل، من رحم اقليمي، وحاضنة غربية، فنشأ مطالباً بتدخل أجنبي عسكري للإطاحة بالنظام.
تعفى تنسيقيات ومنابر ميدانية وثقافية وسياسية من هذا الارتباط بالخارج، لأنها اعتبرت ان خلاص سوريا، إنما يتم عبر مخاض سلمي، وشعارات لا لبس فيها: «لا للتدخل الخارجي، لا للعسكرة، لا للطائفية». هذه المعارضة التي تعتبر سيدة نفســها، قليــلة العدد، قليلة العتاد، قليلة المال، لكن وطنيتها حصن يمنعها من الوقوع في جعل سوريا، معلباً للكبار والصغار.
ثانيا: أسفرت المعارك عن عزلة تامة للـنظام وانفصاله عن الواقع الاقليمي والدولي والـداخلي. ممسك بالعسكر والأمن، وتتفلت منه مـناطق ومدن وقرى كثيرة، حتى بات يتوقع انحـساره إلى مناطق قليلة المسـاحة. قوتــه حيث ينتــشر معسكره وأمته... وبعض مناطق محــازبيه ومواليه. لا سلطــة له أبعد من حدود عــسكره... وعلــيه، فإن أمره بات بيد الخارج الذي يسعــى للإطاحـة به، والخـارج الآخر، الذي يعـمل جاهـداً للإبقاء عليه، من دون نتيجة.
روسيا والصين، حتى الآن، تحملان النظام وتدافعان عن بقائه. حليفان يلعبان بالمصير السوري، في مقابل حلفاء المعارضة الذين يلعبون بالمصير السوري نفسه، وكل على مقتضى سياساته ومصالحه.
لم تعد سوريا في سوريا...
سوريا المعارضة، في معظمها، تحضر ضيفاً إلى موائد الكبار الذين يبحثون مصير سوريا. وسوريا النظام، تحضر في الخفاء، في جعبتي الصين وروسيا... ولا حليف ثابتا حتى اللحظة سوى إيران. وإيران بعيدة و«منبوذة»، ولا ينتقص ذلك من قوتها ونفوذها ودعمها للنظام.
في هذه الاثناء، تعيـش سوريا المــوت الــيومي، القتل المنهجي، المذابح المتــواترة، التهجــير المذهبي. في هذه اللحـظات المريرة، تعيش ســوريا مأتمــها. عدد القتلى يتصاعد. المدن التي تحـول بعضها إلى ركام. سوريا، لا ياسمــين فيها. الركــام يعــلو، ولا يعلى عليه. جديرة بمراثي أرميا و... قفا نبكِ، بصيغة الجمع.

IV ـ زمن الأسئلة

سيأتي الزمن الذي تستعاد فيه هذه الحقبة الدامية، لطرح الاسئلة الساخنة، والتي تستدعي، راهنا، إجابات ساخنة ومتناقضة، مثل: لماذا خرجت سوريا من الملعب وباتت لعبة؟ 11 أيلول، كيف قلب العالم؟ تحرير الجنوب ومستحقاته؟ التحكم بلبنان هل كان حسابه مراً؟ ما كان أثر التجديد للرئيس اميل لحود، برغم «النصائح» الأخوية اللبنانية؟ هل صحيح ان النظام لا يقبل النصح ولا يصغي إلا إلى صوته؟ لماذا لم يتحاش النظام الغضب الدولي والقرار القاضي بانسحاب سوريا من لبنان؟ لماذا صوبت أصابع الاتهام لســوريا بمقتل الرئيس الحريري ورفاقه؟ وأسئلة أخرى كثيرة. انما السؤال الموجع الذي فتح سوريا على الدم: هل كانت درعا الخطيئة الأصلية التي لا تغتفر، ولا يعتذر عنها، وتداوى بما هو أسوأ منها.
ما ثمن الاستخفاف بالربيع العربي؟ هل بالفعل كان النظام مقتنعاً أو مناوراً أو مغامراً عندما أعلنت بثينة شعبان، بعد أحداث درعا مباشرة، فوصفت «الانتفاضة» التي جاءت رداً على تنكيل، بأن المتظاهرين من أهل الارتكاب، وارهابيون، ومتآمرون؟
لم يأت زمن الاجابة عن هذه الاسئلة. والظن الغالب، ان درعا، كانت البوابة التي فتحها النظام، فدخلت منها رياح الأرض كلها، فطغت على ما رفعه السوريون، وقبلهم التونسيون والمصريون واليمنيون والبحرينيون، من مطالب متصلة بالحرية لا سواها، والكرامة لا غيرها، والديموقراطية اللابديل عنها.
من درعا دخل الجميع، فوصلوا إلى حيث تصل أسلحتهم العسكرية والسياسية. وها سوريا تعيش الفصل ما قبل الاخير... النظام يريد حسماً لا يصل اليه، ويحاول بلوغ نهاية لأزمة تبتعد عنه. والمعارضات تريد حسماً، لن تصل إليه، لاحتمال انحراف الأزمة إلى حروب أهلية، تأخذ سوريا إلى الصومال.
الكل يبحث عن حل، ولا حل البتة. مجلس الأمن مصاب بالدوران حول نص جامع. كوفي أنان ضائع بين موسكو وواشنطن. الجامعة العربية تجمع مظاهرة المعارضات ولا اتفاق.
لا حل في السياسة، العقدة كبيرة جدا: كيف تكون المرحلة الانتقالية؟ مع الأسد أم بدونه ومنذ البداية؟ أي، هل يمكن العبور إلى تسوية بالاشتراك مع رموز النظام، أم من دونهم؟ هل تقبل المعارضة برحيل رموز النظام بعد التسوية، ام قبلها. ما يعني فرض استسلام على النظام، وهو لا يشعر انه ضعيف.
المعارك العسكرية لم تنتج وقائع حاسمة على الأرض، لمصلحة النظام او لمصلحة المعارضة. المعارك تسجل نقاطاً، ولا حسم. والمفاوضات في الخارج، لم تسفر الا عن نصوص لا ترجمة لها.
ما زال الوقت مبكراً، كي تدخل سوريا الفصل الأخير من أزمتها.

انشر المقال على: