الأربعاء 24-04-2024

زيارة إلى "عين حوض”: نحن أهل البيوت.. انتظرونا فنحن عائدون

×

رسالة الخطأ

جهاد أبو ريا-فلسطين المحتلة 1948

زيارة إلى "عين حوض”: نحن أهل البيوت.. انتظرونا فنحن عائدون

جهاد أبو ريا

في النكبة، طردت العصابات الصهيونية جميع أهالي بلدة عين حوض وعددهم آنذاك نحو 750 نسمة، إلى الشتات إلا عائلة واحدة بقيت في الحقول القريبة، وحاولت العودة إلى بيتها، ولما لم تنجح، أقامت بلدة قريبة أطلقت عليها نفس الاسم. أما قرية عين حوض الأصلية فلم تقم العصابات الصهيونية بهدمها، كما فعلت مع باقي القرى التي احتلتها، وإنما كان القرار بتحويلها إلى قرية للفنانين اليهود، لجمالها، وطبيعتها الخلابة.
"اذهبوا من هنا، إنكم تريدون زرع الفتنة بيني وبين صديقي سعيد"، بهذه العبارة أنهت ألفنانة اليهودية روت لقاءها معنا، والذي بدأته بابتسامة واستقبال لطيف في الاستوديو الذي تديره في قرية عين حوض.

وعين حوض هي قرية جميلة، بناها احد قادة صلاح الدين الايوبي ويدعى ابو الهيجاء، وتقع على سفح تل على المنحدرات الغربية لجبل الكرمل، تطل على البحر، بين البيوت وحول القرية تنتشر الاشجار البرية بكثافة حتى تكاد تشعر انها قطعة من الجنة.

في النكبة، طردت العصابات الصهيونية جميع اهالي البلدة وعددهم آنذاك نحو 750 نسمة، الى الشتات الا عائلة واحدة بقيت في الحقول القريبة، وحاولت العودة الى بيتها، ولما لم تنجح، اقامت بلدة قريبة اطلقت عليها نفس الاسم. اما قرية عين حوض الاصلية فلم تقم العصابات الصهيونية بهدمها، كما فعلت مع باقي القرى التي احتلتها، وانما كان القرار بتحويلها الى قرية للفنانين اليهود، لجمالها، وطبيعتها الخلابة.

إنتظر اصدقاؤنا من رام الله سنة كاملة حتى سمح لهم بزيارتنا، واخيرا، ومع حلول شهر رمضان، سمح لهم بذلك، فكان طلبهم الاول زيارة قرية عين حوض التي تقع على بعد نحو 15 كيلومتر جنوب حيفا.

خلال تجوالنا في القرية المهجرة لفت إنتباهنا بيت جميل كبير تطل من داخله شجرة مزهرة بألوان زهرية ذات مظهر فائق الجمال. جلسنا على الدرج المقابل الذي يطل على البيت، نشاهد بتمعن شبابيكه، وأبوابه، وحجارته التي بني منها، والتي توشي انه بيت عربي. فجأة يطل علينا من باب البيت شاب يبدو في العشرين من عمره، ملامحه عربية، وملابسه تدل على انه يعمل على صيانة البيت وترميمه.

أوجه السلام الى الشاب بصوت عال، يسمعنا ويخرج بهدوء من البيت، ويقترب منا بخجل، ويعيد السلام علينا بابتسامة واحترام.

استهل حديثي معه بسؤاله اذا كان هو صاحب البيت. تجحظ عيناه استغرابا، ويجيب انه عامل بسيط يعمل في صيانة وترميم البيت. لم أكن من السذاجة لأظن ان الشاب يسكن في هذا البيت، لكنني اخترت هذا السؤال عمدا لأرى رد فعله، ولأحثه على الحديث معنا.
تعرفنا والشاب على بَعضنا البعض. حدثنا ان اسمه سعيد، وانه بالأصل من هذه القرية التي نتواجد بها، قرية عين حوض، لكن أهله هجروا منها في النكبة، وأنهم أقاموا لهم قرية جديدة تحمل نفس الاسم على بعد مسافة قصيرة. وشأنه شأن الكثير من ابناء عائلته، يعمل في اعمال الصيانة، والترميم في بيوت القرية القديمة عند الفنانين اليهود الذين يسكنونها، ويتعاملون معه بكرم واحترام، لذلك فهو سعيد بعمله.

لا يعرف سعيد من هم اصحاب البيت الذي يعمل فيه، ويقوم على صيانته، هكذا يجيب على سؤال صديقنا أحمد، ثم يسترسل بالحديث، وكلنا اذان صاغية. يخبرنا انه يعرف بيت جده، وانه موجود على الطرف الثاني من الشارع، وكان هو بنفسه قد قام بأعمال صيانة داخل بيت جده الواقع بالقرب من مقبرة القرية، المقبرة التي أرادوا هدمها قبل فترة قصيرة لولا وقفة أهالي البلدة.

لدى سماع كلامه، يتعرض سعيد الى وابل من الأسئلة في نفس الوقت من جميع المتواجدين، كل واحد منا يسأله عن جانب من حديثه: وماذا كان شعورك خلال عملك بيت جدك؟ هل علم الفنان اليهودي ان جدك صاحب البيت؟ وماذا كان رد فعله؟ ماذا حصل مع المقبرة؟ وهل قمتم بترميمها وتسييجها؟

تبدو الدهشة على وجه سعيد من هذا الكم من الأسئلة، وخشية ان يمنعه ذلك من الاستمرار في الحديث معنا، انتقل مباشرة لاحدثه عن معارفي وأصدقائي من أبناء عائلته، فيهدئ حديثي هذا من توتره.

يستمر سعيد بالحديث، فخلال عمله في صيانة وترميم البيت اخبر سعيد الفنان اليهودي ان هذا بيت جده الذي طرد وعائلته منه. لا يعرف لماذا قال له هذا الكلام، لكن الفنان اليهودي نصحه ان لا ينظر الى الماضي فهو شاب في مقتبل العمر، وتمنى عليه النظر الى المستقبل. لم يشأ سعيد ان يزعج الفنان اليهودي الذي يعامله بكرم ولطف، وتوقف عن الحديث عن ماضي بيت جده، فليس من مصلحته ان يزعج صاحب العمل، لكن بقي بداخله شعور مختلط، فهي المرة الاولى التي يشارك بها احدا بهذا الشعور.

بعد قليل، طلبت من سعيد ان يدلنا على مقبرة البلدة، وعلى بيت جده، انهم على بعد عشرات الامتار من مكان تواجدنا. يرافقنا محدثا ان إدارة المستعمرة حاولت قبل أشهر قليلة هدم مقبرة البلدة، فعلم بذلك اقرباؤه، اصحاب البلدة، ومنعوا عملية الهدم والطمس، لكنهم لم ينجحوا بتسييج المقبرة، وترميمها، فقد رفضت ذلك إدارة المستعمرة، ولَم تسمح لهم بذلك رغم دخول خنازير برية اليها ليلا، وتدنيسها، وهددتهم عناصر الإدارة انهم اذا تجرأوا على تسييج، وترميم المقبرة، فلن يبقى منها اثر. يتململ سعيد لعل الحفاظ على الوضع القائم افضل من المخاطرة بطمس وهدم ما تبقى.

يسأل صديقنا طارق سعيد: وماذا عن مسجد القرية، وهل لازال قائما؟ وهل لا زلتم تقيمون الصلاة به؟ ينظر اليه سعيد بنظرة كأنها تقول: "هل حقا لا تعرف ام انك تستغفلني!” واستمر: "لقد حولوا المسجد الى مطعم أرجنتيني اسمه "دونيا روسا"، يأكلون فيه اللحم، ويشربون الخمرة".

في طريقنا باتجاه مقبرة القرية، وبيت جد سعيد، نمر بجانب بيت صغير، انه بيت عربي يستظل مدخله بعريشة عنب، تقف في مدخله امرأة في الخمسينات من عمرها، يطرح عليها سعيد السلام بالعبرية، فتعيد السلام بابتسامة لطيفة، وتدعونا لزيارة الاستوديو. يخبرنا سعيد انها امرأة طيبة، وفنانة يسارية طالما عاملته باهتمام واحترام. استجبنا جميعا الى دعوتها عدا مقبل الذي شعر بعدم راحة.

تعرفنا عليها. انها فنانة تعمل في فنها بمعالجة أوراق الكتب، اسمها روت، تستقبلنا بابتسامة وترحيب، وتطلب منا باحترام ولطف أن نكف الحديث بالعربية، وان نتحدث العبرية فقط لكي نفهم على بعضنا بالبعض، كما قالت. تجاهلنا طلبها، وعبرنا لها عن اعجابنا بفنها، فهي حقا تصنع من الكتب القديمة اشكالا فنية جميلة. من الماضي تجعل حاضرا ممتعا وشيقا ومصدر رزق لها. تبدي هزار معرفة واسعة بالفن، يثير ذلك الدهشة عند روت، ثم تسألها هزار اذا كان قد مرت عليها خلال عملها كتب عربية لأهالي القرية يعود تاريخها الى قبل النكبة. أجابتها ان ذلك لا يهمها.

انهينا زيارة روت قاصدين التوجه الى مقبرة القرية، وبيت جد سعيد. توقفت عند باب الاستوديو وأخبرتها أننا قريبا سنقوم بعمل فني داخل القرية. ابدت روت اعجابها وسألتني عن هذا العمل. اخبرتها اننا سنثبت لافتات حديد بأشكال فنية أمام كل بيت، ونوثق به اسماء اصحاب البيوت الحقيقيين، وتاريخ كل بيت. تبدلت ملامح وجهها، وبدا عليها الامتعاض، والغضب، وسألتني ان كنا قد طلبنا الإذن والموافقة من إدارتها. أجبتها ان ليسوا هم اصحاب البيوت، ولن نطلب اذنهم، بل سنطلب اذن اصحاب البيوت الحقيقيين. ازعجها كلامي كثيرا، وقالت وهي تنظر الى سعيد : "اتركوا الماضي، وأنظروا الى المستقبل". وأضافت: "لو تعلم كم من المآسي، والويلات، واجهت عائلتي في هولندا، واليمن". فأجبتها: "دعينا من تلك المناطق البعيدة، ولنتحدث عن الجرائم والويلات التي قمتم بها في المكان الذي نقف به، وعلى اي حال لسنا المسؤولين عن مآسيكم، وويلاتكم، ولكن انتم المسؤولون عن ويلاتنا ومآسينا".

نظرت روت مرة اخرى الى سعيد، وقالت: "نحن نعيش مع سعيد بمحبة واحترام، وانت تريد ان تزرع الفتنة بيننا”. اجبتها وانا انظر الى سعيد: "انك تسرقين، وتسلبين بيت سعيد، وتريدونه عاملا بسيطا لصيانة بيته الذي تسكنين به، وتمنعينه من العودة اليه. تدنسون مسجده، وتمنعونه من ترميم، وتسييج مقبرة اهله".

استفزها كلامي الهادئ اكثر واكثر، واقتربت من سعيد تقول له : "لا تأبه لكلامهم. انهم يريدون زرع الفتنة بيننا. لا تنظر الى الماضي، وانظر الى مستقبلك". ثم توجهت الي وقالت لي: "اذهب من هنا. إنك تريد زرع الفتنة بيني وبين صديقي سعيد".

تركت المكان وانا اقول لها: انتظرونا فنحن عائدون.

بدا التوتر على وجه سعيد، تردد قليلا، نظر تارة باتجاهنا، وتارة اخرى باتجاه روت، ثم انضم الينا لنكمل جولتنا باتجاه بيت جده، ومقبرة القرية.

انشر المقال على: