الجمعة 29-03-2024

الانتخابات اليونانية: دلالاتها السياسية والاقتصادية - الاجتماعية

وليد نسيب الياس

أثينا – اليونان
بُعيد اسدال الستار عن الانتخابات البرلمانية اليونانية التي جرت في 17 حزيران الماضي والتعليقات والتحليلات الواقعية وغير الواقعية لنتائجها، نطرح هذه القراءة التحليلية بخصوص التحول السياسي الذي طرأ على المسرح السياسي اليوناني ، دون إدعاء التنبؤ بتاريخ سقوط نظام الثنائية الحزبية (حزب باسوك وحزب الديمقراطية الجديدة) الذي حكم البلاد لمدة أربعة عقود، ولكنه كان يعيد مراراً وتكرراً طوال 40 عاماً أن مشاكل وأزمات اليونان مردها الى نظام الثنائية الحزبية الذي كان يسيطر ويتحكم بكل شاردة وواردة في شؤون القطاعين العام والخاص، المبنيين على أسس الفساد والمصالح الحزبية الضيقة، والزبائنية الانتخابية، والتبعية للبرجوازية المحلية والأوروبية والعالمية.
ولقد عمل هذا النظام على تسويق مصالحها بكونه الوسيط التجاري والسياسي التابع لها. وفي الظرف الحالي، تسعى البرجوازية ذاتها الى تبديل الأدوار وتوكيل نظام التعددية الحزبية المتمثل بالحكومة الائتلافية المكونة من حزب الديمقراطية الجديدة، وحزب باسوك، وحزب "اليسار" الديمقراطي اليوناني مهمة الاستمرار في خدمة مصالحها على حساب مصالح الطبقات الشعبية، ولا سيما الطبقة العاملة والفلاحين وأصحاب المهن الحرة والحرفية وذوي الدخل المحدود .
تشير نتائج الانتخابات البرلمانية اليونانية التي جرت في 17 حزيران الماضي الى دلالات سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة، نذكر منها:
انهيار نظام الثنائية الحزبية القائم منذ عام 1974 بين كل من حزب باسوك الاشتراكي الديمقراطي وحزب الديمقراطية الجديدة، والموت السريري لنظام حزب اللون الواحد الحاكم ليحل مكانه نظام تحالف القوى البرجوازية اليونانية (اليمين واليسار الديمقراطي) الذي استشرس من أجل صد صعود اليسار الجذري اليوناني الى سدة الحكم بقيادة قائده الشاب "الكسي تسيبرس" (38 عاماً).
سقوط حزب باسوك الذي حكم البلاد طوال 28 عاماً، والذي كان قد صادر واستولى على الخزان الانتخابي للشيوعيين واليساريين اليونانيين، فقد انخفضت قوته الانتخابية من 44 % في عام 2009 الى 12.38 % عام 2012، وتحول من حزب يسار الوسط، ، إلى حزب "اليسار اليميني"، إذا صح التعبير، وفقاً لتوصيف الناخبين الذين صوتوا له في الانتخابات الأخيرة.
فوز حزب الديمقراطية الجديدة في الانتخابات (29.6% 129 مقعداً من أصل 300 مقعداً) بقيادة رئيسه "اندونيس ساماراس"، الذي شكل حكومة ائتلافية مع كل من حزبه وحزب باسوك (12.38 % و33 مقعداً) وحزب "اليسار" الديمقراطي اليوناني (6.26 % و17 مقعداً)، بذريعة المحافظة على بقاء اليونان في منطقة اليورو، وكل ما يترتب عليها من تنفيذ التزاماتها الناجمة عن عقد الاقتراض من صندوق النقد الدولي ومنطقة اليورو والمصرف المركزي الأوروبي، بالرغم من اعتراف القاصي والداني المحلي والأجنبي بأن أدوات خطة الترويكا المذكورة أعلاه فشلت في اخراج اليونان من أزمتها المالية، لا بل زادت الطينة بلة عبر استمرار الركود الاقتصادي (ناقص 6,7%) وتراجع حجم الناتج الوطني وانخفاض الدخل العام وارتفاع نسبة البطالة الى 21.8% (حوالي 1143000 عاطل عن العمل) وتخفيض شرائح المعاشات والأجور في القطاعين العام والخاص بنسبة تتراوح من 30 % الى 40 % ... وانهيار نظام الرعاية الصحية والاجتماعية.. بالإضافة الى وصول البلاد الى شفير أزمة انسانية بامتياز قد لا تعرف نتائجها في حال تفجرها وخروجها الى الشارع اليوناني، ممّا قد يستحيل احتواءها من قبل النظام القائم.
النظام الانتخابي اليوناني
عدم عدالة النظام الانتخابي اليوناني الذي يضيف الى قوة الحزب الأول البرلمانية 50 مقعداً برلمانياً حتى ولو كان الفارق الانتخابي بين الحزبين الأول والثاني صوتاً واحداً. فخصائص النظام الانتخابي الذي أعده حزب الديمقراطية الجديدة في العام 2004 قضت على مطالبة كل من الحزب الشيوعي اليوناني وتحالف اليسار الجذري وحزب اليسار الديمقراطي، ناهيك عن غيرهم من القوى غير الممثلة في البرلمان، باعتماد قانون النسبية. كما يمنح للحزب الأول الأكثرية البرلمانية أي 150 + 1 في حال اجراء جولة ثالثة من الانتخابات المبكرة بنسبة 30 %.
تحالف اليسار الجذري ينال 60% من أصوات الجيل الجديد
تعثر وصول تحالف اليسار الجذري اليوناني الى سدة الحكم في اليونان بفارق قليل لا يتجاوز النقطتين ونصف النقطة عن منافسه حزب اليمين المحافظ، الأمر الذي وصفه زعيمه "الكسيس تسيبرس" على النحو التالي: "وصلنا إلى حافة بئر الحكم ولكننا لم نشرب منه". فبالإضافة الى فوزه في المرتبة الثانية وبلقب حزب المعارضة الأول، حقق اليسار الجذري فوزاً كبيراً مضاعفاً قوته الانتخابية أربعة مرات. وبالتفاصيل، فقد نال في انتخابات العام 2009 4.6 % ( 13 نائباً – 315627 ناخباً )، وفي انتخابات شهر أيار 2012حصل على 16.7% ( 52 نائباً )، ولكنه حصد في انتخابات 17 حزيران الماضي26,89 % (71 مقعداً في البرلمان)، أي ما يعادل 1640000 ناخباً، ونال تأييد الجيل الجديد وجيل عقد الأربعين بنسبة 60%، متفوقاً على أعلى نسبة انتخابية في تاريخ اليسار اليوناني التي سجلها جيل المقاومة الوطنية اليونانية بقيادة الحزب الشيوعي اليوناني في العام 1958 بنسبة 24,4 %. ويكون بذلك قد ثأر من استيلاء حزب رئيس الوزراء الراحل "اندرياس باباندريو"، باسوك (الاشتراكي الديمقراطي)، على أصوات ناخبي اليسار اليوناني، ومصادرته لها، ولا سيما أصوات الحزب الشيوعي، واستخدام باباندريو حينذاك لشعارات الحزب الشيوعي الداعية للاشتراكية والعدالة الاجتماعية، والقائلة إن "الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي" وجهان لعملة واحدة. باختصار، لقد استطاع رئيس تحالف اليسار الجذري اعادة الأمل الى المواطن اليوناني الذي كان يشعر بمرارة تداعيات الأزمة المالية وممثليها في بلاده، ليس لأن تسيبرس يمللك الحل السحري المتكامل لخروج اليونان من أزمتها المالية المتفاقمة، بل لأن زعيمي الثنائية الحزبية السابقة (ساماراس وفنزاليوس) تناسيا كل مسؤولية حزبيهما عن الأزمة التي حمّلاها الى "الكسيس تسيبرس"، محولين أياه الى ميثولوجيا يسارية جامحة، على الصعيد المحلي والأوروبي، ولما لا العالمي. كما تساءلت الدوائر الغربية والرأسمالية الأوروبية عن هويته، ووصفته من دون وجه حق باليساري المتطرف،الشعبوي،الراديكالي، وبلغ حجم التشهير الى حد الزعم بوجود "ارهابيين" يونانيين في صفوف تحالف اليسار ، ووصفه البعض الآخر بأنه يلبس قناع اليسار المتستر تحت عباءة سياسة الاحتكاريين المجحفة، بهدف محاصرة الحركة الشعبية الكفاحية الأصيلة، فيما رأى بعض الاختصاصيين الجيو- بوليتيكيين بأن تسيبرس هو المقود السري الذي سيقلب الاتحاد الأوروبي رأساً على عقب. ووصفوه بأنه وحش من الوحوش الرؤيوية اليسارية وبأنه "هوغو تشافيز" اليوناني. وبرأينا، أن تسيبرس هو ظاهرة يسارية جذرية يونانية وأوروبية بامتياز استطاعت استقطاب الرأي العام اليوناني الذي رفض عقد الاقتراض من صندوق النقد الدولي ومنطقة اليورو والمصرف المركزي الأوروبي، ونجح في الترويج الى أن الأزمة المالية اليوناينة هي إحدى عوارض الأزمة الهيكلية للنظام الرأسمالي والمصرفي العالمي، ولكنه لم يفلح في تغيير الصورة المغلوطة التي رسمها خصومه عنه بأنه ضد منطقة اليورو بالرغم من اعلانه رفض خروج البلاد من منطقة اليورو. كما جنى تسيبرس نتائج الحركة الطلابية التي خرجت طوال شهرين الى الشارع، احتجاجاً على إقدام أحد أفراد الشرطة اليونانية على قتل الفتى "الكسيس غريغوروبولس" (15 عاماً) في نهاية عام 2008، ودلت الاحصاءات الى أن أكثرية الشبيبة اليونانية صوتت لتحالف اليسار الجذري.

ويبدو أن الشعب اليوناني كان مستعداً للتصدي لوحشية النظام الرأسمالي الذي قاده الى آتون جهنم، وإحياء الثورة الاشتراكية في القرن الـ 21، لكنه بحاجة ملحة الى التضامن اليساري المحلي والخارجي على جميع المستويات من أجل ايقاظ الثورة من سباتها العميق.
خسارة الحزب الشيوعي اليوناني نصف قوته الانتخابية
مني الحزب الشيوعي اليوناني بنكسة انتخابية خطيرة، حيث حصل على 4.5 % 12 مقعداً في البرلمان مقابل 8.6 % و26 مقعداً نالها في انتخابات شهر أيارعام 2012. وأصدرت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اليوناني بياناً حول نتائج الانتخابات، وممّا جاء فيه "إن نتيجة الانتخابات كانت سلبية على الشعب اليوناني الذي أصيب من تداعيات الأزمة الرأسمالية اليونانية. ومن العناصر السلبية: الخسائر الكبيرة التي مني بها الحزب، (...)، والوهم السائد بأنه من الممكن تشكيل حكومة ائتلافية لإدارة الأزمة، وخلق أجواء خوف وترهيب لجهة طرد اليونان من منطقة اليورو". ورأى البيان أن "الطبقة البرجوازية اليونانية استبدلت نظام الثنائية الحزبية القديمة بالثنائية الجديدة بين حزب الديمقراطية الجديدة (اليمين الوسط) وتحالف اليسار الجذري (اليسار الوسط) الذي انضمت اليه فلول حزب باسوك". وحذرت اللجنة المركزية من "خطر استقرار القوة الانتخابية لحزب "الفجر الذهبي" اليميني المتطرف، وتحوله الى حزب برلماني (6.96% 18 مقعداً)"، مؤكدة أن " هذا الحزب يعتبر سلاحاً هاماً بيد النظام البرجوازي المتأزم بهدف ثني ذراع الحركة العمالية الشعبية، والتسويق لخطر معادلة الفاشية بالشيوعية ". كما أكد البيان على أن الحزب "سوف يستمر في نضاله الطبقي واللقاء بالقوى الشعبية العمالية الجذرية من أجل ألا يدفع الشعب ثمن افلاس سياسة حكومة "ساماراس" المعادية للمصالح العمالية".
حزب "المستقلين اليونانيين"
ظهر حزب "المستقلين اليونانيين" – اليمين الشعبي - بقيادة "بانوس كامانوس"على الساحة السياسية اليونانية والذي نال المرتبة الرابعة في الانتخابات (7.51% و20 مقعداً في البرلمان )، مسجلاً سابقة، اذ أعلن تأسيسه قبيل الانتخابات بثلاثة أشهر عبر موقع التواصل الاجتماعي "الفيسبوك"، فهزأ السياسيون المخضرمون من محاولة رئيسه الذي كان ينتمي الى حزب الديمقراطية الجديدة ، ولكن النتيجة أثبت العكس فقد انحسر عصر الأحزاب ذات التنظيم الحديدي، وأضحت المواجهة الانتخابية والسياسية تمر حكماً بالوسائل الإعلامية الالكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي.
حزب "الفجر الذهبي"
حزب يميني متطرف صعد بشكل رهيب ومرعب ،حيث رفع قوته الانتخابية من 0.06% في انتخابات عام 2009 إلى 6.96% 18 مقعداً في انتخابات حزيران الماضي ويصف الحزب نفسه بأنه معادٍ للشيوعية والأممية والنيوليبرالية والمسكونية، وبالطبع هو معادٍ للمهاجرين الذين أضحوا "عبئاً على المجتمع اليوناني بسبب غياب الدولة اليونانية وتقاعسها عن القيام بواجباتها الدستورية والقانونية والأمنية". ويعتبر حزب النازية الجديدة أن المهاجرين يتحملون مسؤولية الأزمة المالية المتفاقمة، لذلك ينظم بشكل منهجي هجمات عنف (ضرب وطعن بالسكاكين ...وصولاً الى القتل) ضد المهاجرين ولا سيما غير الشرعيين في وسط العاصمة المكتظ بهم، ويقوم بعض المواطنين اليونانيين بالاتصال بفرع حزب اليمين المتطرف بهدف طلب المساعدة الأمنية سواء عن وجه حق أو غير وجه حق، بدلاً من الاتصال بالشرطة اليونانية، ووصلت الأمور الى نصح أفراد الشرطة المواطنين بالاتصال بالحزب النازي. وتفيد المعلومات أن "خدماته " بلغت – على سبيل المثال - حدّ ضرب الأجانب وطردهم من بيوتهم ومن ثم دهن الشقة وتسليمها الى أصاحبها مقابل أن يدفع الأخير رسم اشتراك الحزب (20 يورو). وكل ذلك يتم على مرأى ومسمع الشرطة التي تؤمن الحماية لعناصر حزب "الفجر الذهبي". يشار الى أن نصف أفراد الشرطة في أثينا صوتوا لهذا الحزب المتطرف الذي يشكل خطراً على النظم الديمقراطية المحلية والأوروبية، وقد يصح توصيفهم بالسلفيين "الأرثوذوكس" الذين يفرضون رأيهم بالقوة والترغيب والترهيب.
حزب اليسار الديمقراطي
نال حزب اليسار الديمقراطي اليوناني برئاسة "فوتيس كوفاليس"، 6.26% 17 مقعداً في البرلمان، وقد ظهر من جراء موافقته على المشاركة في حكومة حزبي نظام الثنائية المترنح، بالرغم من حصولهما على الأكثرية البرلمانية. واضطلع اليسار الديمقراطي بدور لا يشرف جمهوره اليساري لا سيما وانه انشق منذ عام عن تحالف اليسار الجذري بحجة جذرية التحالف وأنه فرع من فروع الحزب الشيوعي اليوناني. ورهان زعيمه قد يقوده الى الاضمحلال السياسي لأنه منح شهادة براءة سياسية لزعيمي حزبي "الديمقراطية الجديدة" و"باسوك" "ساماراس" و"فنزاليوس".
إن التاريخ سيحكم على اليسار الديمقراطي ترويجه أن اليسار الجذري يريد إخراج البلاد من منطقة اليورو، ولكن الواقع سيثبت أن دول منطقة اليورو ،وعلى رأسها ألمانيا، لعب بالوقت السياسي المستقطع لذلك منحت اليونان بعض الوقت لحين تهيئة أجهزتها المالية ومصارفها قبل أن ترفع البطاقة الحمراء وتطرد أثينا من منطقة اليورو.

انشر المقال على: